منه الأنفة ، وقالوا : الأنف في الأنف وحمى أنفه ، وفلان شامخ العرنين ، وقالوا في الذليل : جدع أنفه ورغم أنفه ، فعبر بالوسم على الخرطوم عن غاية الإذلال والإهانة ، لأن السمة على الوجه شين وإذلال فكيف بها على أكرم موضع منه؟ ولقد وسم العباس أباعره في وجوهها فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أكرموا الوجوه فوسمها في جواعرها» (١).
ولما ذكر تعالى في أول الملك أنه خلق الموت والحياة للابتلاء في الأعمال ، وختم هنا بعيب من يغتر بالمال والبنين وهو يعلم أن الموت وراءه أعاد ذكر الابتلاء وأكده بقوله تعالى :
(إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧) وَلا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (٣٠) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (٣٢) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (٣٩))
(إِنَّا) أي : بما لنا من القهر والعظمة (بَلَوْناهُمْ) أي : عاملنا أهل مكة بما وسعنا عليهم به معاملة المختبر مع علمنا بالظاهر والباطن ، فغرّهم ذلك وظنوا أنهم أحباب ، ومن قترنا عليهم من أوليائنا أعداء واستهانوا بهم ونسبوهم لأجل تقللهم من الدنيا إلى السفة والجنون وكان ابتلاؤنا لهم بالقحط الذي دعا عليهم به رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى أكلوا الجيف (كَما بَلَوْنا) أي : اختبرنا (أَصْحابَ الْجَنَّةِ) بأن عاملناهم معاملة المختبر مع علمنا بالظاهر.
وحاصله : أنه استخراج ما في البواطن ليعلمه العباد في عالم الشهادة كما يعلم الخالق في عالم الغيب ، أو أنه كناية عن الجزاء ، وعرف الجنة لأنها كانت شهيرة عندهم وهي بستان عظيم كان دون صنعاء بفرسخين يقال له : الضروان يطؤه أهل الطريق ، كان صاحبه ينادي الفقراء وقت الصرام ويترك لهم ما أخطأ المنجل أو ألقته الريح أو بعد عن البساط الذي يبسط تحت النخلة ، وكان يجتمع لهم شيء كثير ، فلما مات شح بنوه بذلك وقالوا : إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر ، ونحن ذوو عيال ، فحلفوا على أن يجذوها قبل الشمس حتى لا تأتي الفقراء إلا بعد فراغهم ، وذلك معنى قوله تعالى : (إِذْ) أي : حين (أَقْسَمُوا) ودل على تأكيد القسم بالتأكيد فقال : (لَيَصْرِمُنَّها) عبر به عن الجذاذ لدلالته على القطع البائن المستأصل المانع للفقراء من الصريم الذي يعرض على فم الجدي لئلا يرضع ، أو من الصرماء للمفازة التي لا ماء بها والناقة القليلة اللبن (مُصْبِحِينَ) داخلين في أول وقت الصباح لئلا تشعر بهم المساكين فلا يعطوهم منها ما كان أبوهم يتصدق به عليهم منها.
(وَلا) أي : والحال أنهم لا (يَسْتَثْنُونَ) في يمينهم ، أي : ولا يقولون : إن شاء الله.
__________________
(١) أخرجه ابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ١٧٦.