قال ابن عادل : وفيه نظر لورود تعديه بعلى في غير موضع كقوله (١) :
وقد أغدوا على ثبة كرام |
|
نشاوى واجدين لما نشاء |
وإذا كانوا قد عدوا مرادفه بعلى فليعدوه ، وقرأ : أن اغدوا أبو عمرو وعاصم وحمزة في الوصل بكسر النون والباقون بضمها واتفقوا على الابتداء بالهمزة بالضم.
(فَانْطَلَقُوا) أي : فتسبب عن هذا الحث عقبه كأنهم كانوا متهيئين (وَهُمْ) أي : والحال أنهم (يَتَخافَتُونَ) أي : يقولون في حال انطلاقهم قولا هو في غاية السر ، كأنهم ذاهبون إلى سرقة من دار هي في غاية الحراسة من الخفوت وهو الهمود وخفا وخفت وخفد ثلاثتها في معنى الكتم ، ومنه الخفدود للخفاش.
ثم فسر ما يتخافتون به بقوله تعالى : (أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا) وأن لا ههنا مقطوعة كما ترى ، وأكدوه لأنه لا يصدق أن أحدا يصل إلى هذه الوقاحة وأن جذاذا يخلو من سائل (الْيَوْمَ) أي : في جميع النهار بما دل عليه نزع الخافض لتكروا عليه مرارا وتفتشوه فلا تدعوا به ثمرة واحدة ولا موضعا يطمع فيه أحد في قصدكم (عَلَيْكُمْ) وأنتم بها (مِسْكِينٌ) وهي نهي للمسكين في اللفظ للمبالغة في نهى أنفسهم أن لا يدعوه يدخل عليهم ، أي : لا يمكنوه من الدخول حتى يدخل كقولك : لا أرينك ههنا ، فقال لهم أوسطهم سنا وخيرهم نفسا وأعدلهم طبعا بما يدل عليه ما يأتي : لا تقولوا هكذا واصنعوا من الإحسان ما كان يصنع أبوكم ، قال البقاعي : وكأنه طواه سبحانه لأنه مع الدلالة عليه بما يأتي لم يؤثر شيئا.
(وَغَدَوْا) أي : ساروا إليها غدوة (عَلى حَرْدٍ) أي : منع للمساكين. قال أبو عبيدة : على حرد ، أي : منع من حاردت الإبل حرادا ، أي : قل لبنها ، والحرود من النوق القليلة الدر ، وحاردت السنة قل مطرها وخيرها. وقال الشعبي وسفيان : على حنق وغضب من المساكين ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : على قدرة (قادِرِينَ) عند أنفسهم على جنتهم وثمارها لا يحول بينهم وبينها أحد ، أي : بدليل عدم استثنائهم ، فإن الجزم على الفعل في المستقبل فضلا عن أن يكون مع الحلف فعل من لا كفء له. وقال الحسن وقتادة : على جد وجهد. وقال القرطبي وعكرمة : على أمر مجتمع.
ودل على قربها من منزلتهم بالفاء فقال تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْها) أي : بعد سير يسير وليس للزرع ولا للثمر بها أثر (قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ) عن طريق جنتنا لأنها صارت لسوء حالها من ذلك الطائف بعيدة عن حال ما كانت عليه عند تواعدهم وتغيير نياتهم ، فأدهشهم منظرها وحيرهم خبرها ، وأكدوا لأن ضلالهم لا يصدق مع قرب عهدهم وكثرة ملابستهم لها وقوة معرفتهم بها.
ولما انجلى ما أدهشهم في الحال قالوا مضربين عن الضلال (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) أي : ثابت حرماننا ما كنا فيه من الخير الذي لم نغب عنه إلا سواد الليل ، فحرمنا الله تعالى إياه بما عزمنا عليه من حرمان المساكين (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد : ١١] وقرأ الكسائي بإدغام اللام في النون والباقون بالإظهار.
__________________
(١) البيت من الوافر ، وهو لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص ٧٢ ، ولسان العرب (ثوب) ، (ثبا) ، (نشا) ، وتهذيب اللغة ١٥ / ١٥٦ ، وتاج العروس (ثوب) ، (ثبى) ، (نشا).