(قالَ : أَوْسَطُهُمْ) أي : رأيا وعقلا وسنا وفضلا منكرا عليهم (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ) أي : ما فعلتموه لا ينبغي وإن الله تعالى بالمرصاد لمن غير ما في نفسه وحاد (لَوْ لا) أي : هلا ولم لا (تُسَبِّحُونَ) أي : تستثنون ، فكان استئناؤهم تسبيحا ، قال مجاهد وغيره : وهذا يدل على أن هذا الأوسط كان يأمرهم بالاستثناء فلم يطيعوه. قال أبو صالح : كان استثناؤهم سبحان الله ، فقال لهم : هلا تسبحون الله ، أي : تقولون سبحان الله وتشكرونه على ما أعطاكم. وقال النحاس : أصل التسبيح التنزيه لله عزوجل ، فجعل مجاهد التسبيح في موضع إن شاء الله لأن المعنى : تنزيه الله أن يكون شيء إلا بمشيئته. وقال الرازي : التسبيح عبارة عن تنزيهه عن كل سوء ، فلو دخل شيء في الوجود على خلاف إرادة الله تعالى لنسب النقص إلى قدرة الله تعالى ، فقولك : إن شاء الله يزيل هذا النقص فكان ذلك تسبيحا ، وقيل : المعنى هلا تستغفرونه من فعلكم وتتوبون إليه من خبث نيتكم ، قيل : إن القوم لما عزموا على منع الزكاة فاغتروا بالمال والقوة ، قال لهم أوسطهم : توبوا عن هذه المعصية قبل نزول العذاب ، فلما رأوا العذاب ذكرهم أوسطهم كلامه الأول وقال : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) فحينئذ اشتغلوا بالتوبة بأن.
(قالُوا) أي : من غير تلعثم بما عاد عليهم من بركة أبيهم (سُبْحانَ رَبِّنا) أي : تنزه المحسن إلينا التنزيه الأعظم أن يكون وقع منه فيما فعل بنا ظلم ، وأكدوا قباحة فعلهم هضما لأنفسهم وخضوعا لربهم وتحقيقا لتوبتهم بقولهم : (إِنَّا كُنَّا) أي : بما في جبلاتنا من الفساد (ظالِمِينَ) أي : مجاوزين الحدود فيما فعلنا من التقاسم على منع المساكين وعلى جذها في الصباح من غير استثناء.
(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ) أي : في الحال مبادرة في الخضوع (عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ) أي : يلوم بعضهم بعضا يقول هذا لهذا : أنت أشرت علينا بهذا الرأي ، ويقول ذلك لهذا : أنت الذي خوفتنا بالفقر. ويقول الثالث لغيره : أنت رغبتني في جمع المال.
ثم نادوا على أنفسهم بالويل بأن (قالُوا) منادين لما شغلهم قربه منهم وملازمته لهم عن كل شيء (يا وَيْلَنا) أي : هذا وقت حضورك أيها الويل إيانا ومنادمتك لنا ، فإنه لا نديم لنا الآن غيرك ، والويل الهلاك والإشراف عليه (إِنَّا كُنَّا) أي : جبلة وطبعا (طاغِينَ) أي : عاصين بمنع حق الفقراء وترك الاستثناء. وقال ابن كيسان : طاغين نعم الله فلم نشكرها كما شكرها آباؤنا من قبل.
ثم رجعوا إلى أنفسهم فقالوا (عَسى رَبُّنا) أي : الذي أحسن إلينا بتربية هذه الجنة وإهلاك ثمرها الآن تأديبا لنا (أَنْ يُبْدِلَنا) من جنتنا شيئا (خَيْراً مِنْها) يقيم لنا أمر معايشنا فتنقلب أحوالنا هذه التي نحن فيها من الهموم والبذاذة بسرور ولذاذة ، وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الباء الموحدة وتشديد الدال والباقون بسكون الموحدة وتخفيف الدال (إِنَّا إِلى رَبِّنا) أي : المحسن إلينا والمربي لنا بالإيجاد ، ثم الإبقاء خاصة لا إلى غيره (راغِبُونَ) أي : ثابتة رغبتنا ورجاؤنا الخير والإكرام. وقد قيل : إن الله تعالى قبل رجوعهم وأخلف عليهم فأبدلهم جنة يقال لها الحيوان ، كان القطف الواحد منها يحمله وحده من كبره البغل ، رواه البغوي عن ابن مسعود ، وقال أبو خالد اليماني : دخلت تلك الجنة فرأيت كل عنقود منها كالرجل الأسود القائم ، وقال الحسن : قول أهل الجنة (إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) لا أدري إيمانا كان ذلك منهم أو على حدّ ما يكون من المشركين إذا