الفعل ليعلم أن تارك الحض بهذه المنزلة فكيف بتارك الفعل ، وما أحسن قول القائل (١) :
إذا نزل الأضياف كان عذوّرا |
|
على الحيّ حتى تستقل مراجله |
يريد حضهم على القرى واستعجالهم ، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه كان يحض امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين ، وكان يقول : خلعنا نصف السلسلة بالإيمان أفلا نخلع نصفها الثاني بالطعام. وقيل : هو منع الكفار وقولهم : (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) [يس : ٤٧] والمعنى على بذل طعام المسكين.
ولما وصفه سبحانه بأقبح العقائد وأشنع الرذائل تسبب عنه قوله تعالى : (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا) أي : في مجمع القيامة كله (حَمِيمٌ) أي : صديق خالص يحميه من العذاب ، لأنهم كلهم له أعداء كما أنه كان لا يرق على الضعفاء لما هم فيه من الإقلال من حطام الأموال (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) أي : غسالة أهل النار وصديدهم وقيحهم ، فعلين من الغسل (لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ) أي : أصحاب الخطايا ، من خطئ الرجل : إذا تعمد الذنب وهم المشركون ، لا من الخطأ المضاد للصواب ، وهذا الطعام يغسل ما في بطونهم من الأعيان والمعاني التي بها قوام صاحبها وهي بمنزلة ما كانوا يشحون من أموالهم التي أبطنوها وادّخروها في خزائنهم واستأثروا بها على الضعفاء.
(فَلا أُقْسِمُ) أي : لا يقع مني إقسام (بِما تُبْصِرُونَ) من المخلوقات (وَما لا تُبْصِرُونَ) منها ، أي : بكل الموجودات واجبها وجائزها ؛ معقولها ومحسوسها ، لأنها لا تخرج عن قسمين مبصر وغير مبصر ، وقيل : الدنيا والآخرة والأجسام والأرواح والإنس والجنّ والخلق والخالق والنعم الظاهرة والباطنة ، لأنّ الأمر أوضح من أن يحتاج إلى إقسام وإن كنت أقسم في غير هذا الموضع بما شئت ، ولو قيل بهذا في الواقعة لكان حسنا ، وقيل : لا زائدة وجرى على ذلك الجلال المحلي.
(إِنَّهُ) أي : القرآن (لَقَوْلُ) أي : تلاوة (رَسُولٍ) أي : أنا أرسلته به وعنى أخذه وليس فيه شيء من تلقاء نفسه إنما هو كله رسالة واضحة جدا أنا شاهد بها بما له من الإعجاز الذي يشهد أنه كلامي (كَرِيمٍ) أي : على الله تعالى فهو في غاية الكرم الذي هو البعد من مساوئ الأخلاق بإظهار معاليها لشرف النفس وشرف الآباء وهو محمد صلىاللهعليهوسلم وكرم الشيء اجتماع الكمالات فيه اللائقة به. وقيل : هو جبريل عليهالسلام ، قاله الحسن والكلبي رضي الله عنهما لقوله تعالى : (رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ) [التكوير : ١٩ ـ ٢٠] واستدل للأول بقوله تعالى : (وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ) أي : يأتي بكلام مقفى موزون بقصد الوزن.
قال مقاتل رضي الله عنه : سبب نزول هذه الآية أن الوليد بن المغيرة قال : إن محمدا صلىاللهعليهوسلم ساحر ، وقال أبو جهل : شاعر ، وقال عقبة : كاهن ، فردّ الله تعالى عليهم بذلك.
__________________
(١) البيت من الطويل ، وهو لزينب بنت الطثرية في لسان العرب (عذر) ، والتنبيه والإيضاح ٢ / ١٦٧ ، وجمهرة اللغة ص ٦٢ ، وتاج العروس (عذر) ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة ٤ / ٢٥٦ ، ومجمل اللغة ٣ / ٤٦١.