قالوا لهم على سبيل الحكاية (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) وكان كذا وكذا فأوحى الله تعالى إلى نبيه صلىاللهعليهوسلم ما قالوه لقومهم.
قال ابن عربي : ابن مسعود أعرف من ابن عباس لأنه شاهده وابن عباس سمعه وليس الخبر كالمعاينة. وقال القرطبي : إنّ الجنّ أتوا النبيّ صلىاللهعليهوسلم دفعتين إحداهما بمكة وهي التي ذكرها ابن مسعود ، والثانية : بنخلة وهي التي ذكرها ابن عباس. وقال البيهقي : الذي حكاه ابن مسعود إنما هو في أوّل ما سمعت الجنّ قراءة النبيّ صلىاللهعليهوسلم وعلمت بحاله ، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم كما حكاه ابن عباس ، ثم أتاه داعي الجنّ مرّة أخرى فذهب معه وقرأ عليهم القرآن كما حكاه ابن مسعود.
وقال القشيري : لما رجم إبليس بالشهب فرّق إبليس جنوده لعلم ذلك فأتى سبعة منهم بطن نخلة فاستمعوا قراءة النبي صلىاللهعليهوسلم فآمنوا ، ثم أتوا قومهم فقالوا : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) يعني ولم يرجعوا إلى إبليس لما علموه من كذبه وسفاهته ، وجاؤوا إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم في سبعين من قومه فأسلموا فذلك قوله تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً) [الأحقاف : ٢٩] الآيات.
(فَقالُوا) أي : فتسبب عن استماعهم أن قالوا (إِنَّا سَمِعْنا) أي : حين تعمدنا الإصغاء وألقينا إليه أفهامنا (قُرْآناً) أي : كلاما هو في غاية الانتظام في نفسه والجمع لجميع ما يحتاج إليه ، وقرأ ابن كثير بالنقل وقفا ووصلا وحمزة في الوقف دون الوصل والباقون بغير نقل وقفا ووصلا. ثم وصفوا القرآن بالمصدر مبالغة في أمره فقالوا : (عَجَباً) أي : بديعا خارجا عن عادة أمثاله من جميع الكتب الإلهية فضلا عن جميع الناس في جلالة النظم وإعجاز التركيب.
(يَهْدِي) أي : يبين غاية البيان (إِلَى الرُّشْدِ) أي : الحق والصواب (فَآمَنَّا) أي : كل من استمع منا لم يتخلف منا أحد ولا توقف بعد الاستماع (بِهِ) أي : القرآن أي فاهتدينا به وصدّقنا أنه من عند الله.
(وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) أي : لا نرجع إلى إبليس ولا نطيعه ولا نعود إلى ما كنا عليه من الإشراك ، وهذا يدل على أنّ أولئك الجنّ كانوا مشركين. قال الرازي : واعلم أنّ قوله تعالى : (قُلْ) أمر لرسوله صلىاللهعليهوسلم أن يظهر لأصحابه ما أوحي إليه في واقعة الجنّ وفيه فوائد : أحدها : أن يعرفوا بذلك أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعث إلى الجنّ كما بعث إلى الإنس. ثانيها : أن تعلم قريش أنّ الجنّ مع تمرّدهم لما سمعوا القرآن وعرفوا إعجازه آمنوا بالنبيّ صلىاللهعليهوسلم. ثالثها : أن يعلم القوم أنّ الجنّ مكلفون كالإنس. رابعها : أن يعلم أنّ الجنّ يستمعون كلاما تفهمه من لغتنا. خامسها : أن يظهر المؤمن منهم بدعوى غيره من الجنّ إلى الإيمان ، وفي هذه الوجوه مصالح كثيرة إذا عرفها الناس.
تنبيهات :
أحدها : اختلف العلماء في أصل الجنّ فروي عن الحس البصري أنّ الجنّ ولد إبليس ، والإنس ولد آدم ، ومن هؤلاء وهؤلاء مؤمنون وكافرون ، وهم شركاء في الثواب والعقاب ، فمن كان من هؤلاء وهؤلاء كافرا فهو شيطان. وروى الضحاك عن ابن عباس أنّ الجنّ هم ولد الجان وليسوا شياطين ومنهم المؤمن ومنهم الكافر ، والشياطين ولد إبليس لا يموتون إلا مع إبليس. وروي أنّ ذلك النفر كانوا يهودا. وذكر الحسن أنّ منهم يهودا ونصارى ومجوسا ومشركين.
ثانيها : اختلفوا في دخول الجنّ الجنة على حسب الاختلاف في أصلهم ، فمن زعم أنهم من