ومغاربها ، فانظروا ما هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء ، فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها ، فمرّ النفر الذين أخذوا نحو تهامة وهو وأصحابه بنخلة قاصدين سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر ، فلما سمعوا القرآن استمعوا له قالوا : هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء» (١). وهل هذا الاستماع هو المذكور في الأحقاف أو غيره؟ قال أبو حيان : المشهور أنه هو. وقيل : غيره ، والجنّ الذين أتوه جنّ نصيبين والذين أتوه بنخلة جنّ نينوى ، والسورة التي استمعوها قال عكرمة العلق ، وقيل : الرحمن ، ولم يذكر هنا ولا في الأحقاف أنه رآهم.
وعن ابن مسعود أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «أمرت أن أتلو القرآن على الجنّ ، فمن يذهب؟ فسكتوا ثم قال الثانية ، فسكتوا ثم قال الثالثة ، فقلت : أنا أذهب معك يا رسول الله. قال : فانطلق حتى جاء الحجون عند شعب بن أبي ذئب خط عليّ خطا فقال : لا تجاوزه ثم مضى إلى الحجون فانحدروا عليه أمثال الحجل كأنهم رجال الزط ـ قال ابن الأثير في النهاية : الزط قوم من السودان والهنود ، وكأنّ وجوههم المكاكي ، يقرعون في دفوفهم كما تقرع النسوة في دفوفها حتى غشوه ـ فغاب عن بصري فقمت فأومأ إليّ بيده أن اجلس ثم تلا القرآن فلم يزل صوته يرتفع ولصقوا بالأرض حتى صرت لا أراهم» (٢). وفي رواية أخرى «قالوا لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : من أنت؟ قال : أنا نبي. قالوا : فمن يشهد لك على ذلك ، فقال : هذه الشجرة تعالي يا شجرة ، فجاءت تجرّ عروقها ، لها قعاقع حتى انتصبت بين يديه ، فقال : على ماذا تشهدين فيّ؟ قالت : أشهد أنك رسول الله ، قال : اذهبي ، فرجعت كما جاءت حتى صارت كما كانت. قال ابن مسعود : فلما عاد إليّ قال : أردت أن تأتيني قلت : نعم يا رسول الله. قال : ما كان ذلك لك هؤلاء الجنّ أتوا يستمعون القرآن ثم ولوا إلى قومهم منذرين فسألوني الزاد فزوّدتهم العظم والبعر فلا يستطيبن ـ أي يستنجي ـ أحدكم بعظم ولا بعر» (٣) وفي رواية : «أنه عليه الصلاة والسلام لما فرغ وضع رأسه على حجر ابن مسعود فرقد ثم استيقظ ، فقال : هل من وضوء؟ قال : لا إلا أنّ معي إداوة نبيذ فقال : هل هو إلا تمر وماء فتوضأ منه» (٤).
قال الرازي : وطريق الجمع بين رواية ابن عباس ورواية ابن مسعود من وجوه :
أحدها : لعل ما ذكره ابن عباس وقع أوّلا ، فأوحى الله تعالى إليه بهذه السورة ، ثم أمر بالخروج إليهم بعد ذلك كما روي عن ابن مسعود أي فالواقعة متعدّدة.
ثانيها : أنها واقعة واحدة إلا أنه صلىاللهعليهوسلم ما رآهم ولا عرف ماذا قالوا ولا أيّ شيء فعلوا ، فالله تعالى أوحى إليه أنه كان كذا وكذا وفعلوا كذا وكذا.
ثالثها : أنها كانت واحدة وأنه صلىاللهعليهوسلم رآهم وسمع كلامهم وهم آمنوا به ثم رجعوا إلى قومهم
__________________
(١) أخرجه البخاري في الأذان حديث ٧٧٣ ، ومسلم في الصلاة حديث ٤٤٩ ، والترمذي في تفسير القرآن حديث ٣٣٢٣.
(٢) أخرجه بنحوه الترمذي في الأدب باب ٧٦ ، والدارمي في المقدمة باب ٢ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٩٩ ، ٤٥٥ ، ٤٥٨.
(٣) أخرجه أحمد في المسند ١ / ٤٥٨ ، ٤٥٩.
(٤) أخرجه البغوي في تفسيره ٥ / ٢٧١ ، والقرطبي في تفسيره ١٩ / ٥.