الزمان بوجه من الوجوه (أَحَداً) من ودّ وسواع ويغوث ويعوق وغيرها من الصامت والناطق ، وقرأ عاصم وحمزة قل بصيغة الأمر التفاتا ، أي : قل يا محمد والباقون قال بصيغة الماضي والخبر إخبارا عن عبد الله وهو محمد صلىاللهعليهوسلم. قال الجحدري : وهو في المصحف كذلك وقد تقدّم لذلك نظائر في (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي) [الإسراء : ٩٣] في آخر الإسراء وكذا في أوّل الأنبياء وآخرها وآخر المؤمنين.
(قُلْ) أي : يا أشرف الخلق لهؤلاء الذين خالفوك (إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ) أي : الآن ولا بعده بنفسي من غير إقدار الله تعالى لي (ضَرًّا وَلا رَشَداً) أي : لا أقدر أن أدفع عنكم ضرا ولا أسوق إليكم خيرا ، وقيل : لا أملك لكم ضرا أي : كفرا ولا رشدا أي : هدى ؛ لأنه لا يؤثر شيء من الأشياء إلا الله تعالى ، وإنما عليّ البلاغ. وقيل : الضر الموت ، والرشد الحياة.
(قُلْ) أي : لهؤلاء (إِنِّي) وزاد في التأكيد لأنّ ذلك في غاية الاستقرار في النفوس فقال : (لَنْ يُجِيرَنِي) أي : فيدفع عني ما يدفع المجير عن جاره (مِنَ اللهِ) أي : الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه (أَحَدٌ) أي : كائن من كان إن أرادني سبحانه بسوء (وَلَنْ أَجِدَ) أي : أصلا (مِنْ دُونِهِ) أي : الله تعالى (مُلْتَحَداً) أي : معدلا وموضع ميل وركون ومدخلا وملتجأ وحيلة وإن اجتهدت كل الجهد ، والملتحد الملجأ وأصله المدخل من اللحد وقيل : محيصا ومعدلا.
وقوله : (إِلَّا بَلاغاً) فيه أوجه أحدها : أنه استثناء منقطع أي لكن إن بلغت عن الله رحمني لأنّ البلاغ عن الله لا يكون داخلا تحت قوله (وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) لأنه لا يكون من دون الله بل يكون من الله تعالى وبإعانته وتوفيقه.
الثاني : أنه متصل وتأويله أنّ الاستجارة مستعارة من البلاغ إذ هو سببها وسبب رحمته تعالى والمعنى : لن أجد شيئا أميل إليه واعتصم به إلا أن أبلغ وأطيع فيجيرني ، وإذا كان متصلا جاز نصبه من وجهين : أرجحهما أن يكون بدلا من (مُلْتَحَداً ؛) لأنّ الكلام غير موجب وهو اختيار الزجاج.
الثاني : أنه منصوب على الاستثناء.
الثالث : أنه مستثنى من قوله لا أملك ، فإنّ التبليغ إرشاد وانتفاع وما بينهما اعتراض مؤكد لنفي الاستطاعة.
وقوله : (مِنَ اللهِ) أي : الذي أحاط بكلّ شيء قدرة وعلما فيه وجهان أحدهما : أنّ من بمعنى عن لأن بلغ يتعدّى بها ومنه قوله صلىاللهعليهوسلم : «ألا بلغوا عني» (١). والثاني : أنه متعلق بمحذوف على أنه صفة لبلاغا. قال الزمخشري : من ليست بصلة للتبليغ ، وإنما هي بمنزلة من في قوله تعالى : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ) [التوبة : ١] بمعنى بلاغا كائنا من الله. وقوله (وَرِسالاتِهِ) فيه وجهان : أحدهما : أنه منصوب نسقا على بلاغا كأنه قيل لا أملك لكم إلا التبليغ والرسالات ولم يقل الزمخشري غيره. والثاني : أنه مجرور نسقا على الجلالة ، أي : إلا بلاغا عن الله تعالى وعن رسالاته ، كذا قدره أبو حيان وجعله هو الظاهر. ويجوز فيه جعل من بمعنى عن ، والتجوّز في الحروف مذهب كوفي ومع ذلك فغير منقاس عندهم.
__________________
(١) روي الحديث بلفظ : «بلغوا عني ولو آية ...» أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء حديث ٣٤٦١ ، والترمذي في العلم حديث ٢٦٦٩.