بيان أو خبر مبتدأ مضمر ، أي : هو عالم الغيب كله وهو ما لم يبرز إلى عالم الشهادة فهو مختص بعلمه سبحانه فلذلك سبب عنه قوله تعالى : (فَلا يُظْهِرُ) أي : بوجه من الوجوه في وقت من الأوقات. (عَلى غَيْبِهِ) الذي غيبه عن غيره فهو مختص به (أَحَداً) لعزة علم الغيب ولأنه خاصة الملك. (إِلَّا مَنِ ارْتَضى) وقوله تعالى : (مِنْ رَسُولٍ) تبيين لمن ارتضى ، أي : إلا من يصطفيه لرسالته ونبوّته فيظهره على ما يشاء من الغيب ، وتارة يكون ذلك الرسول ملكا ، وتارة يكون بشرا ، وتارة يظهره على ذلك بواسطة ملك ، وتارة بغير واسطة كموسى عليهالسلام في أوقات المناجاة ، ومحمد صلىاللهعليهوسلم ليلة المعراج في العالم الأعلى في حضرة قاب قوسين أو أدنى.
وقال القرطبي : المعنى (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه لأنّ الرسل مؤيدون بالمعجزات ، ومنها الإخبار عن بعض المغيبات كما ورد في التنزيل في قوله تعالى : (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) [آل عمران : ٤٩].
وقال الزمخشري : في هذه الآية إبطال الكرامات لأنّ الذين تضاف إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل ، وقد خص الله تعالى الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب ، وفيها إبطال الكهانة والتنجيم لأنّ أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط ا. ه. وإنكار الكرامات مذهب المعتزلة.
وأمّا مذهب أهل السنة فيثبتونها ، فإنه يجوز أن يلهم الله تعالى بعض أوليائه وقوع بعض الوقائع في المستقبل فيخبر به وهو من إطلاع الله إياه على ذلك ، ويدل على صحة ذلك ما روي عن أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «لقد كان فيمن قبلكم من الأمم ناس محدثون من غير أن يكونوا أنبياء وإن يكن في أمّتي أحد فإنه عمر» (١) أخرجه البخاري. قال ابن وهب : تفسير محدثون ملهمون ولمسلم عن عائشة عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم أنه كان يقول : «في الأمم قبلكم محدثون ، فإن يكن في أمّتي منهم أحد ، فإنّ عمر بن الخطاب منهم» (٢) ففي هذا إثبات كرامات الأولياء.
فإن قيل : لو جازت الكرامة للولي لما تميزت معجزة النبي من غيرها وانسدّ الطريق إلى معرفة الرسول من غيره؟ أجيب : بأنّ معجزة النبي أمر خارق للعادة مع عدم المعارضة مقترن بالتحدّي ، ولا يجوز للولي أن يدّعي خرقا للعادة مع التحدّي إذ لو ادعاه الولي لكفر من ساعته فبان الفرق بين المعجزة والكرامة. وأمّا الكهانة وما ضاهاها فقال القرطبي : إنّ العلماء قالوا لما تمدّح سبحانه بعلم الغيب واستأثر به دون خلقه كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه ، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل ، فأعلمهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوّتهم ، وليس المنجم ومن ضاهاه ومن يضرب بالحصا وينظر في الكواكب ويزجر بالطير ممن ارتضاه من رسول فيطلعه على ما يشاء من غيبه ، بل هو كافر بالله مفتر عليه بحدسه وتخمينه وكذبه.
قال بعض العلماء : وليت شعري ما يقول المنجم في سفينة ركب فيها ألف إنسان مختلفي الأحوال والرتب ، فيهم الملك والسوقة والعالم والجاهل والغني والفقير والكبير والصغير مع اختلاف طوالعهم وتباين مواليدهم ودرجات نجومهم ، فعمهم حكم الغرق في ساعة واحدة ، فإن
__________________
(١) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء حديث ٣٤٦٩ ، وانظر الحاشية التالية.
(٢) أخرجه مسلم في فضائل الصحابة حديث ٢٣٩٨ ، والترمذي في المناقب حديث ٣٦٩٣.