مهادا للتصرّف في الفكر والتدبر. وقيل : أشدّ ثباتا من النهار ، فإنّ الليل يخلو فيه الإنسان بما يعمله ، فيكون ذلك أثبت للعمل ، والوطء الثبات تقول : وطأت الأرض بقدمي وفي الجملة عبادة الليل أشدّ نشاطا وأتم إخلاصا وأكثر بركة وأبلغ في الثواب.
(إِنَّ لَكَ) أي : أيها المتهجد أو يا أكرم الخلق إن كان الخطاب للنبيّ صلىاللهعليهوسلم (فِي النَّهارِ) الذي هو محل السعي في مصالح الدنيا (سَبْحاً طَوِيلاً) أي : تصرّفا وتقلبا وإقبالا وإدبارا في حوائجك وأشغالك ، والسبح : مصدر سبح استعير للتصرف في الحوائج من السباحة في الماء وهي البعد فيه. وقال القرطبي : السبح الجري والدوران. ومنه السباحة في الماء لتقلبه بيديه ورجليه ، وفرس سابح شديد الجري. وقيل : السبح الفراغ ، أي : إنّ لك فراغا لحاجات النهار. وعن ابن عباس رضي الله عنهما (سَبْحاً طَوِيلاً) يعني فراغا طويلا لنومك وراحتك ، فاجعل ناشئة الليل لعبادتك. وقيل : إن فاتك من الليل شيء فلك في النهار فراغ تقدر على تداركه فيه.
(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) أي : المحسن إليك والموجد والمدبر لك بكل ما يكون ذكرا من اسم وصفة وثناء وخضوع وتسبيح وتحميد وصلاة وقراءة ودعاء وإقبال على علم شرعي وأدب مرعي ، ودم على ذلك في ليلك ونهارك واحرص عليه ، فإذا عظمت الاسم بالذكر فقد عظمت المسمى بالتوحيد والإخلاص ، وذلك عون لك على مصالح الدارين ، أما الآخرة فواضح وأما الدنيا فقد أرشد النبيّ صلىاللهعليهوسلم أعز الخلق عليه فاطمة ابنته رضي الله تعالى عنها لما سألته خادما يقيها التعب إلى التسبيح والتحميد والتكبير عند النوم (١).
(وَتَبَتَّلْ) أي : اجتهد في قطع نفسك عن كل شاغل والإخلاص في جميع أعمالها بالتدريج قليلا قليلا منتهيا (إِلَيْهِ) ولا تزل على ذلك حتى يصير ذلك لك خلقا فتكون نفسك كأنها منقطعة بغير قاطع.
وقوله تعالى : (تَبْتِيلاً) مصدر تبتل جيء به رعاية للفواصل وهو ملزوم التبتيل ، قال الزمخشري : فإن قلت كيف قيل تبتيلا؟ مكان تبتلا قلت : لأنّ معنى تبتل بتل نفسه فجيء به على معناه مراعاة لحق الفواصل ا. ه.
والتبتيل الانقطاع ومنه امرأة بتول ، أي : منقطعة عن النكاح ، وفي الحديث أنه نهى عن التبتل وقال : «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة ـ أي : مؤن النكاح ـ فليتزوج» (٢) والمراد به في الآية الكريمة الانقطاع إلى عبادة الله تعالى كما مرّت الإشارة إليه دون ترك النكاح. والتبتل في الأصل : الانقطاع عن الناس والجماعات ، وقيل : إن أصله عند العرب التفرّد قاله ابن عرفة ، وقال ابن العربي : هذا فيما مضى ، وأما اليوم فقد مرجت عهود الناس ، وخفت أماناتهم واستولى الحرام
__________________
(١) في الحديث : عن علي بن أبي طالب أن فاطمة عليهاالسلام أتت النبي صلىاللهعليهوسلم تسأله خادما ، فقال : «ألا أخبرك ما هو خير لك منه؟ تسبحين الله عند منامك ثلاثا وثلاثين ، وتحمدين الله ثلاثا وثلاثين ، وتكبرين الله أربعا وثلاثين». أخرجه البخاري في النفقات حديث ٥٣٦٢.
(٢) أخرجه البخاري في الصوم حديث ١٩٠٥ ، ومسلم في النكاح حديث ١٤٠٠ ، وأبو داود في النكاح حديث ٢٠٤٦ ، والترمذي في النكاح حديث ١٠٨١ ، والنسائي في الصيام حديث ٢٢٤٠ ، وابن ماجه في النكاح حديث ١٨٤٥.