على الحطام ، فالعزلة خير من الخلطة ، والعزبة أفضل من التأهل ، ولكن معنى الآية : وانقطع عن الأوثان والأصنام وعن عبادة غير الله تعالى. وكذلك قال مجاهد رضي الله عنه : معناه أخلص له العبادة ولم يرد التبتيل ، فصار التبتل مأمورا به في القرآن منهيا عنه في السنة ومتعلق الأمر غير متعلق النهي فلا يتناقضان ، وإنما بعث لتبيين ما أنزل إليهم ، فالتبتل المأمور به الانقطاع إلى الله تعالى بإخلاص العبادة كما قال تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [البينة : ٥] والتبتل المنهي عنه هو سلوك مسلك النصارى في ترك النكاح والترهب في الصوامع ، لكن عند فساد الزمان يكون «خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال ومواضع القطر يفرّ بدينه من الفتن» (١).
ولما كان الواجب على كل أحد شكر المنعم بين سبحانه الذي أنعم بسكن الليل الذي أمرنا بالتهجد فيه ومنتشر النهار الذي أمر بالسبح فيه ، فقال تعالى : (رَبُّ الْمَشْرِقِ) أي : موجد محل الأنوار التي بها ينمحي هذا الليل الذي أنت قائم فيه ، ويضيء بها الصباح ، وعند الصباح يحمد القوم السرى ، قال العلامة تقي الدين بن دقيق العيد (٢) :
كم ليلة فيك وصلنا السرى |
|
لا نعرف الغمض ولا نستريح |
واختلف الأصحاب ماذا الذي |
|
يزيل من شكواهم أو يريح |
فقيل تعريسهم ساعة |
|
وقلت بل ذكراك وهو الصحيح |
(وَالْمَغْرِبِ) أي : الذي يكون عند الليل الذي هو موضع السكون ومحل الخلوات ولذيذ المناجاة ، فلا تغرب شمس ولا قمر ولا نجم إلا بتقديره (لا إِلهَ) أي : لا معبود بحق (إِلَّا هُوَ) أي : ربك الذي دلت تربيته لك على مجامع العظمة وأبهى صفات الكمال والتنزه عن كل شائبة نقص ، وقرأ (رَبُ) ابن عامر وأبو عمرو وحمزة والكسائي بكسر الباء على البدل من ربك ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما على القسم بإضمار حرف القسم ، كقولك : الله لأفعلن ، وجوابه : لا إله إلا هو ، كما تقول : لا أحد في الدار إلا زيد ، والباقون برفعها على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره لا إله إلا هو (فَاتَّخِذْهُ) أي : خذه بجميع جهدك وذلك بإفرادك إياه بكونه (وَكِيلاً) أي على كل من خالفك بأن تفوض جميع أمورك إليه ، فإنه يكفيكها كلها ، فإنه المنفرد بالقدرة عليها ، ولا شيء في يد غيره فلا تهتم بشيء أصلا.
قال البقاعي : وليس ذلك بأن يترك الإنسان كل عمل ، فإن ذلك طمع فارغ ، بل بالإجمال في طلب كل ما ندب الإنسان إلى طلبه ليكون متوكلا في السبب لا من دون سبب ، فإنه يكون حينئذ كمن يطلب الولد من غير زوجة وهو مخالف لحكمة هذه الدار المبنية على الأسباب ، ولو لم يكن في إفراده بالوكالة إلا أنه يفارق الوكلاء بالعظمة والشرف والرفق من جميع الوجوه ، فإن وكيلك من الناس دونك وأنت تتوقع أن يكلمك كثيرا في مصالحك وربك أعظم العظماء وهو يأمرك بأن تكلمه
__________________
(١) هو من حديث رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، انظر البخاري في الإيمان باب ١٢ ، والفتن باب ١٤ ، والرقاق باب ٣٤ ، والمناقب باب ٢٥ ، وبدء الخلق باب ١٥ ، وأبا داود في الفتن باب ٤ ، والنسائي في الإيمان باب ٣٠ ، وابن ماجه في الفتن باب ١٣ ، ومالك في الاستئذان حديث ١٦ ، وأحمد في المسند ٣ / ٦ ، ٣٠ ، ٤٣ ، ٥٧.
(٢) الأبيات لم أجدها في المصادر والمراجع التي بين يدي.