وفي رواية : «فجئثت منه حتى هويت إلى الأرض فجئت إلى أهلي» وذكره ثم حمي الوحي وتتابع.
فإن قيل : إنّ هذا الحديث دال على أنّ سورة المدثر أوّل ما نزل ، ويعارضه حديث عائشة المخرج في الصحيحين في بدء الوحي وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى وفيه : «فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) [العلق : ١] حتى بلغ (ما لَمْ يَعْلَمْ) [العلق : ٥] فرجع بها رسول الله صلىاللهعليهوسلم يرجف فؤاده» (١) الحديث؟ أجيب : بأنّ الذي عليه العلماء أنّ أوّل ما نزل من القرآن على الإطلاق (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) كما صرّح به في حديث عائشة. ومن قال : إنّ سورة المدثر أوّل ما نزل من القرآن فضعيف ، وإنما كان نزولها بعد فترة الوحي كما صرّح به في رواية الزهريّ عن أبي سلمة عن جابر ، ويدل عليه ما في الحديث وهو يحدّث عن فترة الوحي إلى أن قال : «وأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ» ، ويدل عليه قوله أيضا : «فإذا الملك الذي جاءني بحراء».
وحاصله : أنّ أوّل ما نزل من القرآن على رسول الله صلىاللهعليهوسلم سورة (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) وأنّ أوّل ما نزل بعد فترة الوحي سورة المدثر ، وبهذا يحصل الجمع بين الحديثين.
قوله : «فإذا هو قاعد على عرش بين السماء والأرض» يريد به السرير الذي يجلس عليه. وقوله : «يحدّث عن فترة الوحي» أي : عن احتباسه وعدم تتابعه وتواليه في النزول وقوله : «فجئثت منه» روي بجيم مضمومة ثم همزة مكسورة ثم ثاء مثلثة ساكنة ثم تاء الضمير ، وروي بثاءين مثلثتين بعد الجيم ومعناها فرعبت منه وفزعت ، وقوله : «حمي الوحي وتتابع» أي : كثر نزوله وازداد بعد فترته من قولهم : حميت الشمس والنار إذا ازداد حرّها. وقوله : «وصبوا عليّ ماء باردا» فيه أنه ينبغي لمن فزع أن يصبّ عليه الماء ليسكن فزعه.
وأصل المدّثر المتدثر وهو الذي يتدثر في ثيابه ليستدفئ بها ، وأجمعوا على أنه رسول الله صلىاللهعليهوسلم وإنما سمي مدّثرا لوجوه :
أحدها : قوله صلىاللهعليهوسلم : «دثروني».
وثانيها : أنه صلىاللهعليهوسلم كان نائما متدثرا بثيابه فجاءه جبريل عليهالسلام وأيقظه صلىاللهعليهوسلم وقال : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ) أي : حذر الناس من العذاب إن لم يؤمنوا ، والمعنى : قم من مضجعك واترك التدثر بالثياب ، واشتغل بهذا المنصب الذي نصبك الله عزوجل له.
وثالثها : أنّ الوليد بن المغيرة وأبا جهل وأبا لهب والنضر بن الحرث اجتمعوا وقالوا : إنّ وفود العرب يجتمعون في أيام الحج وهم يسألون عن أمر محمد وقد اختلفتم في الإخبار عنه ، فمن قائل هو مجنون وقائل ساحر وقائل كاهن ، وتعلم العرب أنّ هذا كله لا يجتمع في رجل واحد فيستدلون باختلاف الأجوبة على أنها أجوبة باطلة سموا محمدا باسم واحد تجتمعون عليه وتسميه العرب به ، فقام رجل منهم فقال : إنه شاعر ، فلما سمع صلىاللهعليهوسلم ذلك اشتدّ عليه ورجع إلى بيته محزونا فتدثر بقطيفة فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ.)
وقيل : إنه ليس المراد التدثر بالثياب وعلى هذا ففيه وجوه أيضا :
أحدها : قال عكرمة : المعنى : يا أيها المدّثر بالنبوّة والرسالة من قولهم ألبسه الله لباس
__________________
(١) أخرجه البخاري في بدء الوحي حديث ٣.