وثانيها : روي أنهم ألقوا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم سلاء شاة فشق عليه ، فرجع إلى بيته حزينا وتدثر في ثيابه صلىاللهعليهوسلم فقيل : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ) ولا تمنعك تلك الشناعة عن الإنذار (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) على أن لا يتنقم منهم (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) عن تلك النجاسات والقاذورات.
وثالثها : قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كان المشركون لا يصونون ثيابهم عن النجاسات ، فأمره الله تعالى أن يصون ثيابه عنها.
وقيل : هو أمر بتقصيرها ومخالفة العرب في تطويلهم الثياب وجرهم الذيول ، وذلك مما لا يؤمن معه إصابة النجاسة. قال صلىاللهعليهوسلم : «إزار المؤمن إلى أنصاف ساقيه ولا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين ، وما كان أسفل من ذلك ففي النار» (١) فجعل صلىاللهعليهوسلم الغاية في لباس الإزار الكعب وتوعد على ما تحته بالنار ، فما بال رجال يرسلون أذيالهم ويطيلون ثيابهم ، ثم يتكلفون رفعها بأيديهم وهذه حالة الكبر وقال صلىاللهعليهوسلم : «لا ينظر الله إلى من جرّ ثوبه خيلاء» (٢) وفي رواية «من جرّ إزاره خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة» (٣). قال أبو بكر رضي الله عنه : يا رسول الله إنّ أحد شقي إزاري يسترخي إلا أني أتعاهد ذلك منه. فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لست ممن يصنعه خيلاء» (٤).
وقيل : هو أمر بتطهير النفس مما يستقذر من الأفعال ، ويستهجن من العادات. يقال فلان طاهر الثياب وطاهر الجيب والذيل إذا وصفوه بالنقاء من المعايب ومدانس الأخلاق ، وفلان دنس الثياب للغادر وذلك لأنّ الثوب يلابس الإنسان ويشتمل عليه فكني به عنه ألا ترى إلى قولهم : أعجبني زيد ثوبه كما تقول : أعجبني زيد عقله وخلقه ، ويقولون : المجد في ثوبه والكرم تحت حلته ، ولأنّ الغالب أنّ من طهر باطنه ونقاه عني بتطهير الظاهر وتنقيته ، وأبى إلا اجتناب الخبيث وإيثار الطهر في كل شيء. وقال عكرمة : سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن قوله تعالى : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) فقال : لا تلبسها على معصية ولا على غدر ثم قال : أما سمعت قول غيلان بن سلمة الثقفي (٥) :
وإني بحمد الله لا ثوب فاجر |
|
لبست ولا من عنده أتقنع |
والعرب تقول في وصف الرجل بالصدق والوفاء طاهر الثياب ، ويقولون لمن غدر إنه لدنس الثياب. وقال أبيّ بن كعب : لا تلبسها على غدر ولا على ظلم ولا على إثم البسها وأنت برّ طاهر.
__________________
(١) روي الحديث بلفظ : «إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه ...» أخرجه ابن ماجه حديث ٣٥٧٣ ، وأحمد في المسند ٣ / ٦.
(٢) أخرجه البخاري في اللباس حديث ٥٧٨٣ ، ومسلم في اللباس حديث ٢٠٨٥ ، والترمذي في اللباس حديث ١٧٣٠.
(٣) أخرجه الترمذي حديث ١٧٣١ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٣ ، ٦٠ ، ١٤٧ ، ١٥٦ ، ٥٠٣ ، ٣ / ٣٩.
(٤) أخرجه أبو داود في اللباس حديث ٤٠٨٥ ، والنسائي في الزينة حديث ٥٣٣٥.
(٥) يروى البيت بلفظ :
إني بحمد الله لا ثوب غادر |
|
لبست ولا من خزية أتقنّع |
والبيت من الطويل ، وهو لغيلان في لسان العرب (طهر) ، وتهذيب اللغة ٦ / ١٧٢ ، ولابن مطر المازني في معجم الشعراء ص ٤٦٨ ، ولبرذع بن عدي الأوسي في مجالس ثعلب ص ٢٥٣ ، وبلا نسبة في أساس البلاغة (قنع) ، (خزى).