(عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) أي : من الملائكة وهم خزنتها مالك ومعه ثمانية عشر ، وقيل : التسعة عشر نقباء. وقال أكثر المفسرين : تسعة عشر ملكا بأعيانهم. وقيل : تسعة عشر ألف ملك. قال ابن جريج : نعت النبيّ صلىاللهعليهوسلم خزنة جهنم فقال : «أعينهم كالبرق الخاطف وأنيابهم كالصياصي ، وأشعارهم تمس أقدامهم يخرج لهب النار من أفواههم ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة ، نزعت منهم الرحمة ، يدفع أحدهم سبعين ألفا فيرميهم حيث أراد من جهنم» (١). قال عمرو بن دينار : إنّ واحدا منهم يدفع بالدفعة الواحدة في جهنم أكثر من ربيعة ومضر. قال ابن الأثير : الصياصي قرون البقر.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما نزلت هذه الآية قال أبو جهل لقريش : ثكلتكم أمّهاتكم أسمع ابن أبي كبشة يخبر أنّ خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم ـ يعني الشجعان ـ أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد من خزنة جهنم؟ فقال أبو الأشد بن كلدة بن خلف الجمحي : أنا أكفيكم منهم سبعة عشر ، عشرة على ظهري وسبعة على بطني فاكفوني أنتم اثنين. وروي أنه قال : أنا أمشي بين أيديكم على الصراط فأدفع عشرة بمنكبي الأيمن وسبعة بمنكبي الأيسر في النار ، ونمضي فندخل الجنة ، فأنزل الله عزوجل : (وَما جَعَلْنا) أي : بما لنا من العظمة وإن خفي وجه العظمة فيه على من عمي قلبه (أَصْحابَ النَّارِ) أي : خزنتها (إِلَّا مَلائِكَةً) أي : لم نجعلهم رجالا فتغالبوهم وإنما جعلهم ملائكة لأنهم خلاف جنسي الفريقين من الجنّ والإنس فلا يأخذهم ما يأخذ المجانس من الرحمة والرأفة ولأنهم أشدّ بأسا وأقوى بطشا فقوّتهم أعظم من قوّة الإنس والجنّ ولذلك جعل الرسول إلى البشر من جنسهم ليكون له رأفة ورحمة بهم.
فإن قيل : ثبت في الأخبار أنّ الملائكة مخلوقون من النور فكيف تطيق المكث في النار؟ أجيب : بأنّ الله تعالى قادر على كل الممكنات فكما أنه لا استبعاد في أنه يبقي الحي في مثل ذلك العذاب الشديد أبد الآباد ولا يموت ، فكذا لا استبعاد في إبقاء الملائكة هناك من غير ألم.
(وَما جَعَلْنا) أي : بما لنا من العظمة (عِدَّتَهُمْ) أي : مذكورة ومحصورة (إِلَّا فِتْنَةً) أي : بلية (لِلَّذِينَ كَفَرُوا) وقال ابن عباس رضي الله عنهما : ضلالة وفتنة مفعول ثان على حذف مضاف أي : إلا سبب فتنة وللذين صفة الفتنة وليست فتنة مفعولا له. وقول البيضاوي وما جعلنا عددهم إلا العدد الذي اقتضى فتنتهم وهو التسعة عشر تبعا للزمخشري ، قال أبو حيان : إنه تحريف لكتاب الله إذ زعم أنّ معنى إلا فتنة للذين كفروا إلا تسعة عشر وهذا لا يذهب إليه عاقل ولا من له أدنى ذكاء.
وقال الرازي : إنما صار هذا العدد سببا لفتنة الكفار من وجهين : الأوّل : أنّ الكفار يستهزئون ويقولون لم لا يكونون عشرين ، وما المقتضي لتخصيص هذا العدد. والثاني : أن الكفار يقولون هذا العدد القليل كيف يكونون وافين بتعذيب أكثر العالم من الجنّ والإنس من أوّل ما خلق الله إلى قيام الساعة؟
وأجيب : عن الأوّل بأنّ هذا السؤال لازم على كل عدد يفرض ، وعن الثاني بأنه لا يبعد أن الله تعالى يرزق ذلك العدد القليل قوّة تفي بذلك ، فقد اقتلع جبريل عليهالسلام مدائن قوم لوط على أحد جناحيه ورفعها إلى السماء حتى سمع أهل السماء صياح ديكتهم ثم قلبها فجعل عاليها
__________________
(١) أخرجه البغوي في تفسيره ٥ / ١٧٧.