سافلها ، وأيضا فأحوال القيامة لا تقاس بأحوال الدنيا ولا للعقل فيها مجال. وذكر أرباب المعاني في تقرير هذا العدد وجهين :
أحدهما : ما قاله أرباب الحكمة إنّ سبب فساد النفس الإنسانية في قوّتها النظرية والعملية هو القوى الحيوانية والطبيعية ، فالقوى الحيوانية هي الخمسة الظاهرة والخمسة الباطنة والشهوة والغضب فهذه اثنا عشر ، وأما القوى الطبيعية فهي الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمولدة ، فالمجموع تسعة عشر فلما كانت هذه منشآت لا جرم كان عدد الزبانية هكذا.
ثانيهما : أنّ أبواب جهنم سبعة فستة منها للكفار وواحد للفساق ، ثم إن الكفار يدخلون النار لأمور ثلاثة : ترك الاعتقاد وترك الإقرار وترك العمل فيكون لكل باب من تلك الأبواب الستة ثلاثة فالمجموع ثمانية عشر ، وأما باب الفساق فليس هناك إلا ترك العمل فالمجموع تسعة عشر مشغولة بغير العبادة فلا جرم صار عدد الزبانية تسعة عشر.
وقوله تعالى : (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ) متعلق بجعلنا لا بفتنة. وقيل : بفعل مضمر أي : فعلنا ذلك ليستيقن الذين (أُوتُوا الْكِتابَ) أي : أعطوا التوراة والإنجيل ، فإنه مكتوب فيهما أنه تسعة عشر ، فذلك موافقة لما عندهم (وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا) أي : من أهل الكتاب (إِيماناً) أي : تصديقا لموافقة النبيّ صلىاللهعليهوسلم لما في كتبهم (وَلا يَرْتابَ) أي : يشك (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) في عددهم.
فإن قيل : قد أثبت الاستيقان لأهل الكتاب وزيادة الإيمان للمؤمنين فما فائدة (وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ؟) أجيب : بأنّ الإنسان إذا اجتهد في أمر غامض دقيق الحجة كثير الشبه ، فحصل له اليقين فربما غفل عن مقدّمة من مقدّمات ذلك الدليل الدقيق فيعود الشك فإثبات اليقين في بعض الأحوال لا ينافي طريان الارتياب بعد ذلك ، ففائدة هذه الجملة نفي ذلك الشك ، وإنه حصل لهم يقين جازم لا يحصل عقبه شك البتة.
(وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي شك ونفاق وإن قل ونزول هذه السورة قبل وجود المنافقين فهو علم من أعلام النبوّة فإنه إخبار بمكة عما سيكون بالمدينة بعد الهجرة ولا ينكر جعل الله تعالى بعض الأمور علة إصلاح ناس وفساد آخرين ؛ لأنه لا يسأل عما يفعل على أن العلة قد تكون مقصودة لشيء بالقصد الأوّل ثم يترتب عليها شيء آخر يكون قصده بالقصد الثاني تقول خرجت من البلد لمخافة الشر ومخافة الشر لا يتعلق بها الغرض.
(وَالْكافِرُونَ) أي : ويقول الراسخون في الكفر الجازمون بالتكذيب الساترون لما دلت عليه الأدلة من الحق (ما ذا) أي : أي شيء (أَرادَ اللهُ) أي : الملك الذي له جميع العظمة (بِهذا) أي : العدد القليل في جنب عظمته (مَثَلاً) قال الجلال المحلي : سموه لغرابته بذلك ، وأعرب حالا. وقال الليث : المثل الحديث ومنه (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) [الرعد : ٣٥] أي : حديثها والخبر عنها. وقال الرازي : إنما سموه مثلا لأنه لما كان هذا العدد عددا عجيبا ظنّ القوم أنه ربما لم يكن مراد الله تعالى منه ما أشعر به ظاهره ، بل جعله مثلا لشيء آخر وتنبيها على مقصود آخر لا جرم سموه مثلا على سبيل الاستعارة لأنهم لما استغربوه ظنوا أنه ضرب مثلا لغيره ، ومثلا تمييز أو حال وتسمية هذا مثلا على سبيل الاستعارة لغرابته.
ولما كان التقدير أراد بهذا إضلال من ضل وهو لا يبالي وهداية من اهتدى وهو لا يبالي كان