رضي الله عنه : معرضين عن القرآن من وجهين : أحدهما : الجحود والإنكار ، والثاني : ترك العمل بما فيه ، وقيل : المراد بالتذكرة العظة بالقرآن وغيره من المواعظ ومعرضين حال من الضمير في الجار الواقع خبرا عن ما الاستفهامية ، ومثل هذه الحال تسمى حالا لازمة ، وعن التذكرة متعلق به ، أي : أيّ شيء حصل لهم في إعراضهم عن الاتعاظ.
(كَأَنَّهُمْ) في إعراضهم عن التذكرة من شدة النفر (حُمُرٌ) أي : من حمر الوحش وهي أشد الأشياء نفارا ، ولذلك كان أكثر تشبيهات العرب في وصف الإبل بسرعة السير بالحمر في عدوها إذا وردت ماء فأحست بما يريبها (مُسْتَنْفِرَةٌ) أي : موجدة للنفار بغاية الرغبة حتى كأنها تطلبه من أنفسها لأنه شأنها وطبعها ، وقرأ ابن عامر ونافع بفتح الفاء على أنه اسم مفعول أي : نفرها القناص والباقون بكسرها بمعنى نافرة.
(فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) قال مجاهد رضي الله عنه : هي جماعة الرماة الذين يتصيدونها لا واحد له من لفظه ، وهي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما وقال سعيد بن جبير رضي الله عنه : هو القناص ، وعن زيد بن أسلم : فريق من رجال أقوياء. وكل ضخم شديد عند العرب قسور وقسورة ، وعن أبي المتوكل هي لغط القوم وأصواتهم. وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : حبال الصيادين. وقال أبو هريرة رضي الله عنه : هي الأسد ، وهو قول عطاء والكلبي ، وذلك أن الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد هربت ، كذلك هؤلاء المشركون إذا سمعوا النبيّ صلىاللهعليهوسلم يقرأ القرآن هربوا ، وعن عكرمة رضي الله عنه ظلمة الليل ويقال لسواد الليل قسورة ، وفي تشبيههم بالحمر مذمّة ظاهرة وتهجين لحالهم بين كما في قوله تعالى (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) [الجمعة : ٥] شهادة عليهم بالبله وقلة العقل.
ولما كان الجواب قطعا لا شيء لهم في إعراضهم هذا أضرب عنه بقوله تعالى : (بَلْ يُرِيدُ) أي : على دعواهم في زعمهم (كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ) أي : المعرضين من ادّعائه الكمال في المروءة (أَنْ يُؤْتى) أي : من السماء (صُحُفاً) أي : قراطيس مكتوبة (مُنَشَّرَةً) أي : مفتوحة ، وذلك أنّ أبا جهل وجماعة من قريش قالوا : يا محمد لن نؤمن بك حتى تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء عنوانه : من ربّ العالمين إلى فلان ابن فلان ونؤمر فيه باتباعك ونظيره (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) [الإسراء : ٩٣] وعن ابن عباس رضي الله عنهما كانوا يقولون : إن كان محمد صادقا ليصبح عند رأس كل واحد منا صحيفة فيها براءته من النار. وقال الكلبي رضي الله عنه : إن المشركين قالوا : يا محمد بلغنا أنّ الرجل من بني إسرائيل كان يصبح مكتوبا عند رأسه ذنبه وكفارته فائتنا بمثل ذلك. وقالوا : إذا كانت ذنوب الإنسان تكتب عليه ، فما لنا لا نرى ذلك. قال البغوي : والصحف جمع الصحيفة ومنشرة منشورة.
قال الله تعالى : (كَلَّا) أي : لا يؤتون الصحف. وقيل : حقا قال البغوي : وكل ما ورد عليك منه فهذا وجهه. قال ابن عادل : والأول أجود لأنه ردّ لقولهم. ثم بين تعالى سبب إعراضهم بقوله تعالى : (بَلْ لا يَخافُونَ) أي : في زمن من الأزمان (الْآخِرَةَ) فهذا هو السبب في إعراضهم.
وقوله تعالى : (كَلَّا) استفتاح قاله الجلال المحلي. وقال البيضاوي : ردع عن إعراضهم. وقال البغوي وتبعه ابن عادل : حقا (إِنَّهُ) أي : القرآن (تَذْكِرَةٌ) أي : عظيمة توجب إيجابا عظيما