وقدم الجارّ الدال على الاختصاص إشارة إلى أنّ هذا النظر مباين للنظر إلى غيره ، فلا يعد ذلك نظرا بالنسبة إليه وعبر بالوجوه عن أصحابها ؛ لأنها أدل ما يكون على السرور ، وليكون ذكرها أصرح في أنّ المراد بالنظر حقيقته.
روى مسلم في قوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦] كان ابن عمر يقول : أكرم أهل الجنة على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ثم تلا هذه الآية.
وأنكر الرؤية المعتزلة ، واحتجوا بقوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [الأنعام : ١٠٣] ويقولون : النظر المقرون بإلى ليس اسما للرؤية بل لمقدّمة الرؤية وهي تقليب الحدقة نحو المرئيّ التماسا لرؤيته ونظر العين بالنسبة إلى الرؤية كنظر القلب بالنسبة إلى المعرفة وكالإصغاء بالنسبة إلى السمع ، ويدل على ذلك قوله تعالى : (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) [الأعراف : ١٩٨] فأثبت النظر حال عدم الرؤية ، فتكون الرؤية غاية النظر وأنّ النظر يحصل والرؤية غير حاصلة. قالوا : ويمكن أن يكون معنى قوله تعالى : (ناظِرَةٌ) منتظرة كقولك أنا أنظر إليك في حاجتي.
وأجيب عن استدلالهم بقوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) بأن لا تدركه بالإحاطة والجهة فلا يكون ذلك مانعا للرؤية على هذا الوجه وعن بقية استدلالهم بما ذكروه بجوابين :
أحدهما : أن نقول : النظر هو الرؤية لقول موسى عليهالسلام (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣] فلو كان المراد تقليب الحدقة نحو المرئي لاقتضت الآية إثبات الجهة والمكان ، ولأنه أخر النظر عن الإراءة فلا يكون تقليب الحدقة.
الجواب الثاني : سلمنا ما ذكرتموه من أنّ النظر تقليب الحدقة تعذر حمله على الحقيقة فيجب حمله على الرؤية إطلاقا لاسم السبب على المسبب وهو أولى من حمله على الانتظار لعدم الملازمة ؛ لأن تقليب الحدقة كالسبب للرؤية ، ولا تعلق بينه وبين الانتظار.
وأمّا قولهم بحمله على الانتظار فأجيب عنه أيضا بأن الذي هو بمعنى الانتظار في القرآن غير مقرون بإلى ، كقوله تعالى : (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) [الحديد : ١٣] والذي ندعيه أن النظر المقرون بإلى ليس إلا بمعنى الرؤية ؛ لأنّ وروده بمعنى الرؤية ظاهر فلا يكون بمعنى الانتظار دفعا للاشتراك.
ولما ذكر تعالى أهل النعمة أتبعه أضدادهم من أهل النقمة فقال سبحانه وتعالى : [سورة القيامة (٧٥) : الآيات ٢٤ الى ٤٠]
(وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥) كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (٣٠) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (٣١) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (٤٠))
(وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) أي : في ذلك اليوم بعينه (باسِرَةٌ) أي : شديدة العبوس والكلوح والتكره لما هي فيه من الغم كأنها قد غرقت فيه. وقال السدي : (باسِرَةٌ) متغيرة.
(تَظُنُ) أي : يتوقع أربابها بما ترى من المخايل (أَنْ يُفْعَلَ بِها) أي : بهم فإنه إذا أصيب الوجه الذي هو أشرف ما في الجملة كان ما عداه أولى (فاقِرَةٌ) وهي الداهية العظيمة ، قال أبو عبيدة : سميت بذلك لأنها تكسر فقار الظهر يقال : فقرته الفاقرة أي : كسرت فقار ظهره ومنه سمي