مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٧) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨))
ولما ذكر جزاءهم ذكر وصفهم الذي يستحقون عليه ذلك بقوله تعالى : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) وهذا يجوز أن يكون مستأنفا ويجوز أن يكون خبرا لكان مضمرة. قال الفراء : التقدير : كانوا يوفون بالنذر في الدنيا وكانوا يخافون. وقال الزمخشري : يوفون جواب من عسى يقول : ما لهم يرزقون ذلك. قال أبو حيان : واستعمل عسى صلة لمن وهو لا يجوز ، وأتى بالمضارع بعد عسى غير مقرون بأن وهو قليل أو في الشعر ، والوفاء بالنذر مبالغة في وصفهم بالتوفر على أداء الواجبات لأنّ من وفّى بما أوجبه هو على نفسه لوجه الله تعالى كان بما أوجبه الله تعالى عليه أوفى ، وقال الكلبى : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) أي : يتممون العهود لقوله تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ) [النحل : ٩١](أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة : ١] أمروا بالوفاء بها لأنهم عقدوها على أنفسهم باعتقادهم الإيمان. قال القرطبي : والنذر حقيقة ما أوجبه المكلف على نفسه من شيء يفعله ، وإن شئت قلت في حدّه : هو إيجاب المكلف على نفسه من الطاعات ما لو لم يوجبه لم يلزمه. وروي أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه» (١).
ولما دل وفاؤهم على سلامة طباعهم قال تعالى عاطفا دلالة على جمعهم للأمرين المتعاطفين ، فهم يفعلون الوفاء لا لأجل شيء بل لكرم الطبع. (وَيَخافُونَ) أي : مع فعلهم للواجبات (يَوْماً) قال ابن عبد السلام : شرّ يوم أو أهوال يوم (كانَ) أي : كونا هو في جبلته (شَرُّهُ) أي : ما فيه من الشدائد (مُسْتَطِيراً) أي : فاشيا منتشرا غاية الانتشار من استطار الحريق والفجر وهو أبلغ من طار. وقال قتادة رضي الله عنه : كان شرّه فاشيا في السموات فانشقت وتناثرت الكواكب وكوّرت الشمس والقمر وفزعت الملائكة ونسفت الجبال وغارت المياه وتكسر كل شيء على الأرض من جبل وبناء ، وفي ذلك إشعار بحسن عقيدتهم وإحسانهم واجتنابهم عن المعاصي فإن الخوف أدل دليل على عمارة الباطن ، قالوا : ما فارق الخوف قلبا إلا خرب ، ومن خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل.
فإن قيل : لم قال تعالى : (كانَ شَرُّهُ) ولم يقل سيكون؟ أجيب : بأنه كقوله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١] فبما قيل في ذاك يقال هنا.
(وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ) أي : على حسب ما يتيسر لهم من عال ودون ، وقوله تعالى : (عَلى حُبِّهِ) حال إما من الطعام أي : كائنين على حبهم إياه فهو في غاية المكنة منهم والاستعلاء على قلوبهم لقلته وشهوتهم له وحاجتهم إليه ، كما قال تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران : ٩٢] ليفهم أنهم للفضل أشدّ بذلا ، ولهذا قال صلىاللهعليهوسلم في حق الصحابة رضي الله عنهم : «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» (٢) لقلة الموجود إذ ذاك وكثرته بعد ، وإما
__________________
(١) أخرجه البخاري في الأيمان والنذور حديث ٦٧٠٠ ، وأبو داود في الأيمان والنذور حديث ٣٢٨٩ ، والترمذي في النذور والأيمان حديث ١٥٢٦ ، والنسائي في الأيمان والنذور حديث ٣٨٠٦ ، وابن ماجه في الكفارات حديث ٢١٢٦.
(٢) أخرجه البخاري في فضائل الصحابة باب ٥ ، ومسلم في فضائل الصحابة حديث ٢٢١ ، ٢٢٢ ، وأبو داود في السنة باب ١٠ ، والترمذي في المناقب باب ٥٨ ، وابن ماجه في المقدمة باب ١١ ، وأحمد في المسند ٣ / ١١ ، ٥٤.