(وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ) أي : الموجد لهم المحسن إليهم المدبر لمصالحهم (شَراباً طَهُوراً) أي : ليس هو كشراب الدنيا سواء أكان من الخمر أم من الماء أم من غيرهما فهو بالغ الطهارة.
وقال عليّ رضي الله عنه : إذا توجه أهل الجنة إلى الجنة مروا بشجرة يخرج من ساقها عينان فيشربون من إحداهما فتجري عليهم نضرة النعيم فلا تتغير أبشارهم ولا تشعث شعورهم أبدا ، ثم يشربون من الأخرى فيخرج ما في بطونهم من الأذى ثم تستقبلهم خزنة الجنة فيقولون لهم سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ، وقال النخعي وأبو قلابة : هو إذا شربوه بعد أكلهم طهرهم وصار ما أكلوه وشربوه رشح مسك وضمرت بطونهم. وقال مقاتل : هو من عين ماء على باب الجنة تنبع من ساق شجرة ، من شرب منها نزع الله تعالى ما كان في قلبه من غش وغل وحسد ، وما كان في جوفه من أذى ، وعلى هذا فيكون فعول للمبالغة. وقال الرازي : قوله تعالى (طَهُوراً) في تفسيره احتمالات : أحدها : لا يكون نجسا كخمر الدنيا ، وثانيها : المبالغة في البعد عن الأمور المستقذرة لأنه لم يعصر فتمسه الأيدي الوضرة وتدوسه الأرجل الدنسة ولم يجعل في الدنان والأباريق التي لم يعن بتنظيفها. وثالثها : أنه لا يؤول إلى النجاسة لأنها ترشح عرقا من أبدانهم له ريح كريح المسك ، وعلى هذين الوجهين يكون الطهور مطهرا لأنه يطهر بواطنهم من الأخلاق الذميمة والأشياء المؤذية.
فإن قيل : هل هذا نوع آخر غير ما ذكر قبل ذلك من أنهم يشربون من الكافور والزنجبيل والسلسبيل أم لا؟ أجيب : بأنه نوع آخر لوجوه : أولها : رفع. ثانيها : أنه تعالى أضاف هذا الشراب إلى نفسه بقوله تعالى : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) وذلك يدل على فضل هذا دون غيره ، ثالثها : ما روي أنه تقدّم إليهم الأطعمة والأشربة ، فإذا فرغوا منها أتوا بالشراب الطهور فيشربون فيطهر ذلك بطونهم ويفيض عرقا من جلودهم مثل ريح المسك ، وهذا يدل على أنّ ذلك الشراب مغاير لتلك الأشربة ، ولأنّ هذا الشراب يهضم سائر الأشربة ، ثم إنّ له مع هذا الهضم تأثيرا عجيبا وهو أنه يجعل سائر الأطعمة والأشربة عرقا يفوح منه ريح كريح المسك ويطهر شاربه عن الميل إلى اللذات الخسيسة والركون إلى ما سوى الحق فيتجرّد لمطالعة جلاله متلذذا بلقائه باقيا ببقائه وهو منتهى درجات الصدّيقين وكل ذلك يدل على المغايرة.
وقوله تعالى : (إِنَ) على إضمار القول أي : ويقال لهم إنّ (هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً) أي : على أعمالكم التي كنتم تجاهدون فيها أنفسكم عن هواها إلى ما يرضي ربكم والإشارة إلى ما تقدّم من عطاء الله تعالى لهم (وَكانَ) أي : على وجه الثبات (سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) أي : لا نضيع شيئا منه ونجازي بأكثر منه أضعافا مضاعفة.
ولما بين تعالى بهذا القرآن العظيم الوعد والوعيد ذكر سبحانه أنه من عنده وليس هو بسحر ولا كهانة ولا شعر بقوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ) أي : على ما لنا من العظمة التي لا نهاية لها لا غيرنا (نَزَّلْنا عَلَيْكَ) وأنت أعظم الخلق إنزالا استعلى حتى صار المنزّل خلقا لك (الْقُرْآنَ) أي : الجامع لكل هدى (تَنْزِيلاً) قال ابن عباس : متفرّقا آية بعد آية ولم ينزل جملة واحدة.
قال الرازي : والمقصود من هذه الآية تثبيت الرسول صلىاللهعليهوسلم وشرح صدره فيما نسبوه إليه صلىاللهعليهوسلم من كهانة وسحر ، فذكر تعالى أنّ ذلك وحي من الله تعالى فكأنه تعالى يقول : إن كان هؤلاء الكفار يقولون : إنّ ذلك كهانة فأنا الله الملك الحق أقول على سبيل التأكيد : إنّ ذلك وحي حق وتنزيل