عَذاباً)(١) أي : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) [النساء : ٥٦] و (كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) [الإسراء : ٩٧].
ولما ذكر تعالى ما للكافرين أتبعه بذكر ما للمؤمنين فقال تعالى :
(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (٣١) حَدائِقَ وَأَعْناباً (٣٢) وَكَواعِبَ أَتْراباً (٣٣) وَكَأْساً دِهاقاً (٣٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (٣٥) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (٣٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (٣٧) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (٣٨) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (٣٩) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (٤٠))
(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً) أي : مكان فوز في الجنة.
وقوله تعالى : (حَدائِقَ) أي : بساتين فيها أنواع الأشجار المثمرة بدل من مفازا بدل الاشتمال أو البعض أو بيان له وقوله تعالى : (وَأَعْناباً) أي : كروما عطف على مفازا.
(وَكَواعِبَ) أي : جواري تكعب ثديهنّ جمع كاعب (أَتْراباً) أي : على سنّ واحد جمع ترب بكسر التاء وسكون الراء وقيل : الأتراب اللدات.
(وَكَأْساً دِهاقاً) أي : خمرا مالئة محالها وفي القتال (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ) والدهاق المترعة ودهق الحوض ملأه حتى قال : قطني ، وقال ابن عباس : مترعة مملوءة. وقال عكرمة : صافية.
(لا يَسْمَعُونَ فِيها) أي : الجنة في وقت ما عند شرب الخمر وغيره من الأحوال (لَغْواً) أي : لغطا يستحق أن يلغى بأن يكون ليس له معنى ، وقوله تعالى : (وَلا كِذَّاباً) قرأه بالتخفيف الكسائي وبالتشديد الباقون ، أي : تكذيبا من واحد لغيره بخلاف ما يقع في الدنيا عند شرب الخمر.
(جَزاءً مِنْ رَبِّكَ) أي : المحسن إليك بما أعطاك جزاهم بذلك جزاء. وقوله تعالى : (عَطاءً) بدل من جزاء وهو اسم مصدر وجعله الزمخشري منصوبا بجزاء نصب المفعول به ، وردّه أبو حيان بأنه جعل جزاء مصدرا مؤكدا لمضمون الجملة التي هي (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ) قال : والمصدر المؤكد لا يعمل لأنه لا ينحل لحرف مصدري والفعل ولا نعلم في ذلك خلافا (حِساباً) أي : كافيا وافيا يقال : أحسبت فلانا أي : أعطيته ما يكفيه حتى قال حسبي. وقال ابن قتيبة أي : عطاء كثيرا ، وقيل : جزاء بقدر أعمالهم.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ) برفع رب والرحمن وابن عامر وعاصم بخفضهما والآخران بخفض الأول ورفع الثاني.
أما رفعهما فمن أوجه : أحدها : أن يكون رب خبر مبتدأ مضمر أي : هو رب والرحمن كذلك ، أو مبتدأ خبره لا يملكون ، ثانيها : أن يجعل رب مبتدأ والرحمن خبره ، ولا يملكون خبرا ثانيا أو مستأنفا ، ثالثها : أن يكون ربّ مبتدأ والرحمن نعته ، ولا يملكون خبر رب. رابعها : أن يكون رب مبتدأ والرحمن مبتدأ ثانيا ولا يملكون خبره ، والجملة خبر الأوّل ، وحصل الربط بتكرير المبتدأ بمعناه وهو رأي الأخفش ، ويجوز أن يكون لا يملكون حالا وتكون لازمة.
__________________
(١) أخرجه ابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ١ / ٣١٠.