الأنواع العظيمة من الإحسان لا يليق بالعاقل أن يتمرّد على طاعته وأن يتكبر على عبيده أتبع ذلك بما يكون كالمؤكد لهذه الأغراض وهو شرح أحوال القيامة ، فإن الإنسان إذا سمعها خاف فيدعوه ذلك الخوف إلى التأمّل في الدلائل والإيمان بها والإعراض عن الكفر ، ويدعوه أيضا إلى ترك التكبر على الناس وإلى إظهار التواضع فقال تعالى :
(فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢))
(فَإِذا جاءَتِ) أي : كانت ووجدت لأنّ كل ما هو كائن لاقيك وجاء إليك (الصَّاخَّةُ) أي : صيحة القيامة وهي النفخة الثانية التي تصخ الأذن ، أي : تصمها لشدّة وقعتها. مأخوذة من صخه بالحجر أي : صكه به. وقال الزمخشري : صخ لحديثه مثل أصاخ فوصفت النفخة بالصاخة مجازا ، لأنّ الناس يصخون لها. وقال ابن العربي : الصاخة التي تورث الصمم وإنها لمسمعة ، وهذا من بديع الفصاحة كقوله (١) :
أصمني سرّهم أيام فرقتهم |
|
وهل سمعتم بسرّ يورث الصمما |
وجواب (إذا) محذوف دل عليه قوله تعالى : (فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ) أي : اشتغل كل واحد بنفسه.
وقوله تعالى : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ) بدل من إذا (مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ) أي : زوجته (وَبَنِيهِ) لاشتغاله بما هو مدفوع إليه ، ولعلمه أنهم لا يغنون عنه شيئا كقوله تعالى : (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً) [الدخان : ٤١] فيفرّ المرء من هؤلاء الذين كان يفرّ إليهم في دار الدنيا ويستجير بهم لكثرة ما يشغله. وبدأ بالأخ لأنه أدناهم رتبة في الحب والذب ، ثم بالأمّ لأنها كانت مشاركة له في الإلف ويلزم من حمايتها أكثر مما يلزم للأخ ، وهو لها آلف وعليها أحنّ وعليها أرق وأعطف ، ثم بالأب لأنه أعظم منها في الإلف لأنه أقرب منها في النوع ، وللولد عليه من المعاطفة ما له من مزيد النفع أكثر ممن قبله ، ثم بالصاحبة لأنّ الزوجة التي هي أهل لأن تصحب ألصق بالفؤاد وأعرق في الوداد ، وكان الإنسان أذب عنها عند الشدائد ، ثم بالولد لأنّ له من المحبة والمعاطفة بالسرور والمشاورة في الأمر ما ليس لغيره ، ولذلك يضيع عليه رزقه وعمره.
فقدّم أدناهم مرتبة في الحب والذب ، فأدناهم على سبيل الترقي وأخر الأوجب في ذلك فالأوجب بخلاف ما في سورة سأل فكأنه قيل : يفرّ المرء من أخيه بل من أمّه بل من أبيه بل من صاحبته بل من بنيه ، وقيل : يفرّ منهم حذرا من مطالبتهم بالتبعات. يقول الأخ : لم تواسني بمالك ، والأبوان : قصرت في برّنا ، والصاحبة : أطعمتني الحرام وفعلت وصنعت ، والبنون : لم تعلمنا ولم ترشدنا ، وقيل : أوّل من يفرّ من أخيه هابيل ، ومن أبويه إبراهيم عليهالسلام ، ومن صاحبته نوح ولوط ، ومن ابنه نوح.
ولما ذكر الفرار أتبعه سببه فقال تعالى : (لِكُلِّ امْرِئٍ) وإن كان أعظم الناس مروءة (مِنْهُمْ
__________________
(١) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.