بتصوير الأعضاء والمنافع بالفعل (فَعَدَلَكَ) أي : جعل كل شيء من ذلك سليما مودعا فيه قوّة المنافع التي خلقه الله تعالى لها.
تنبيه : قوله تعالى : (الَّذِي) يحتمل الإتباع على البدل والبيان والنعت والقطع إلى الرفع والنصب. واعلم أنه سبحانه وتعالى لما وصف نفسه بالكرم ذكر هذه الأمور الثلاثة كالدلالة على تحقيق ذلك الكرم فقوله سبحانه (الَّذِي خَلَقَكَ) أي : بعد أن لم تكن لا شك أنه كرم لأنه وجود ، والوجود خير من العدم ، والحياة خير من الموت. كما قال تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) [البقرة : ٢٨].
وقوله تعالى : (فَسَوَّاكَ) أي : جعلك مستوي الخلقة سالم الأعضاء غاية في الكرم كما قال تعالى : (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) [الكهف : ٣٧] أي : معتدل الخلق والأعضاء. وقال ذو النون المصري : أي : سخر لك المكوّنات أجمع ، وما جعلك مسخرا لشيء منها ، ثم أنطق لسانك بالذكر وقلبك بالعقل وروحك بالمعرفة ومدّك بالإيمان وشرفك بالأمر والنهي ، وفضلك على كثير ممن خلق تفضيلا. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف الدال والباقون بالتشديد ، بمعنى جعلك متناسب الأطراف فلم يجعل إحدى يديك أو رجليك أطول ، ولا إحدى عينيك أوسع فهو من التعديل. وهو كقوله تعالى : (بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) [القيامة : ٤]. وقال عطاء عن ابن عباس : جعلك قائما معتدلا حسن الصورة لا كالبهيمة المنحنية. وقال أبو علي الفارسي : عدلك خلقك في أحسن تقويم مستويا على جميع الحيوان والنبات ، وواصلا في الكمال إلى ما لم يصل إليه شيء من أجسام هذا العالم. وأمّا قراءة التخفيف فتحتمل هذا أي : عدل بعض أعضائك ببعض ويحتمل أن يكون من العدول ، أي : صرفك إلى ما شاء من الهيئات والأشكال. ونقل القفال عن بعضهم : أنهما لغتان بمعنى واحد.
(فِي أَيِّ صُورَةٍ) أي : من الصور التي تعرفها والتي لا تعرفها من الدواب والطيور وغير ذلك من الحيوان وغيره ، وما في قوله تعالى : (ما شاءَ) مزيدة ، وفي أيّ متعلق بركب في قوله تعالى (رَكَّبَكَ) أي : ركبك في أي صورة اقتضتها مشيئته وحكمته من الصور المختلفة في الحسن والقبح والطول والقصر والذكورة والأنوثة ، والشبه ببعض الأقارب وخلاف الشبه. فإن قيل : هلا عطفت هذه الجملة كما عطف ما قبلها؟ أجيب : بأنها بيان لعدلك ويجوز أن تتعلق بمحذوف ، أي : ركبك حاصلا في بعض الصور ، ومحله النصب على الحال إن علق بمحذوف ، ويجوز أن يتعلق بعدلك ويكون في أي معنى التعجب ، أي : فعدلك في صورة عجيبة : ثم قال : (ما شاءَ رَكَّبَكَ) من التراكيب يعني : تركيبا حسنا.
وقوله تعالى : (كَلَّا) ردع عن الاغترار بكرم الله تعالى والتعلق به ، وهو موجب الشكر والطاعة إلى عكسهما الذي هو الكفر والمعصية. وقوله تعالى : (بَلْ تُكَذِّبُونَ) أي : يا كفار مكة (بِالدِّينِ) إضراب إلى ما هو السبب الأصلي في اغترارهم والمراد بالدين الجزاء على الأعمال والإسلام.
(وَإِنَ) أي : والحال أنّ (عَلَيْكُمْ) أي : ممن أقمناهم من جندنا من الملائكة (لَحافِظِينَ) أي : على أعمالكم بحيث لا يخفى عليهم منها جليل ولا حقير.
(كِراماً) أي : على الله تعالى (كاتِبِينَ) أي : لهذه الأعمال في الصحف كما تكتب الشهود