(وَأَخَّرَتْ) أي : جميع ما عملت من خير أو شر أو غيرهما. فإن قيل : أي وقت من القيامة يحصل هذا العلم. قال الرازي : أمّا العلم الإجمالي فيحصل في أوّل زمان الحشر ؛ لأنّ المطيع يرى آثار السعادة ، والعاصي يرى آثار الشقاوة في أوّل الأمر ، وأمّا العلم التفصيلي ، فإنما يحصل عند قراءة الكتب والمحاسبة.
وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) أي : البشر الآنس بنفسه الناسي لما يعنيه ، خطاب لمنكري البعث. وروى عطاء عن ابن عباس : أنها نزلت في الوليد بن المغيرة. وقال الكلبي ومقاتل : نزلت في أبي الشريق ضرب النبي صلىاللهعليهوسلم فلم يعاقبه الله تعالى في أوّل أمره. وقيل : تتناول جميع العصاة لأنّ الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ) أي : ما خدعك وسوّل لك الباطل حتى تركت ما أوجب عليك المحسن إليك وأتيت بالمحرّمات (الْكَرِيمِ) أي : الذي له الكمال كله المقتضي لأن لا يهمل الظالم ولا يسوي بين المحسن والمسيء ، هذا إذا حملنا الإنسان على جميع العصاة ، فإن حملناه على الكافر وهو ظاهر الآية فالمعنى : ما الذي دعاك إلى الكفر وإنكار الحشر والنشر.
فإن قيل : كونه كريما يقتضي أن يغترّ الإنسان بكرمه لأنه جواد مطلق ، والجواد الكريم يستوي عنده طاعة المطيع وعصيان المذنب ، وهذا يوجب الاغترار كما يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه صيح بغلام له مرّات فلم يلبه ، فنظر فإذا هو بالباب فقال له : لم لا تجيبني؟ فقال : لثقتي بحلمك وأمني عقوبتك ، فاستحسن جوابه وأعتقه.
وقالوا أيضا : من كرم ساء أدب غلمانه. وإذا ثبت أنّ كرمه يقتضي الاغترار به فكيف جعله ههنا مانعا من الاغترار؟ أجيب : بأنّ حق الإنسان أن لا يغتر بكرم الله تعالى عليه حيث خلقه حيا ، وتفضل عليه فهو من كرمه لا يعاجل بالعقوبة بسطا في مدّة التوبة ، وتأخيرا للجزاء إلى أن يجمع الناس للجزاء فالحاصل أنّ تأخير العقوبة لأجل الكرم ، وذلك لا يقتضي الاغترار بهذا التفضيل فإنه منكر خارج عن حدّ الحكمة ، ولهذا قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما تلاها : «غرّه جهله» (١). وقال عمر : غرّه حمقه وجهله. وقال الحسن : غرّه والله شيطانه الخبيث ، أي : زين له المعاصي. وقال له : افعل ما شئت فربك الكريم الذي تفضل عليك بما تفضل به أوّلا ، وهو متفضل عليك آخرا حتى ورّطه.
وقيل للفضيل بن عياض : إن أقامك الله يوم القيامة وقال لك : (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) ماذا تقول له؟ قال : أقول غرّني ستورك المرخاة ، وهذا على سبيل الاعتراف بالخطأ في الاغترار بالستر وليس باعتذار كما يظنه الطماع ، ويظنّ به قصاص الحشوية ويروون عن أئمتهم أنما قال (بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) دون سائر صفاته ليلقن عبده الجواب حتى يقول : غرّني كرم الكريم. وقال مقاتل : غرّه عفو الله حيث لم يعاقبه أوّل مرّة. وقال السدي : غرّه رفق الله تعالى به. وقال قتادة : سبب غرور ابن آدم تسويل الشيطان. وقال ابن مسعود : ما منكم من أحد إلا سيخلو الله تعالى به يوم القيامة فيقول : ما غرّك بي يا ابن آدم؟ ماذا عملت فيما علمت؟ يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين؟
(الَّذِي خَلَقَكَ) أي : أوجدك من العدم مهيأ بتقدير الأعضاء (فَسَوَّاكَ) عقب تلك الأطوار
__________________
(١) أخرجه ابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ١٨٢.