حتى طبع على قلوبهم فلا تقبل الخير ولا تميل إليه. روى أبو هريرة أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن المؤمن إذا أذنب ذنبا نكتت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه منها وإذا زاد زادت حتى تعلو قلبه فذلكم الران الذي ذكره الله تعالى في كتابه المبين» (١). وقال أبو معاذ : الران أن يسودّ القلب من الذنوب ، والطبع أن يطبع على القلب وهو أشدّ من الران ، والأقفال أشدّ من الطبع ، وهو أن يقفل على القلب ، قال تعالى : (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) [محمد : ٢٤] وقال الحسن : هو الذنب على الذنب حتى تحيط الذنوب بالقلب ويغشى فيموت القلب.
قال صلىاللهعليهوسلم : «إياكم والمحقرات من الذنوب فإنّ الذنب على الذنب يوقد على صاحبه جحيما ضخمة» (٢). وعن الحسن : الذنب بعد الذنب يسود القلب. يقال : ران عليه الذنب وغان عليه رينا وغينا والغين الغيم ، ويقال : ران فيه النوم : رسخ فيه ، ورانت به الخمرة ذهبت به. وقرأ حمزة وشعبة والكسائي بالإمالة : محضة ، والباقون بالفتح وسكت حفص على اللام وقفة لطيفة من غير قطع والباقون بغير سكت.
وقوله تعالى : (كَلَّا) ردع عن الكسب الرائن على قلوبهم ، وقيل : بمعنى حقا كما مرّ (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ) أي : المحسن إليهم (يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) أي : فلا يرونه بخلاف المؤمنين فإنهم يرونه كما ثبت لك في الأحاديث الصحيحة. وقال الحسن : لو علم الزاهدون والعابدون أنهم لا يرون ربهم في المعاد لزهقت أنفسهم في الدنيا. وسئل مالك عن هذه الآية فقال : لما حجب أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه.
وفي قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) دلالة على أنّ أولياء الله يرون الله تعالى ، ومن نفى الرؤية كالزمخشري جعله تمثيلا للاستخفاف بهم وإهانتهم ؛ لأنه لا يؤذن على الملوك إلا للوجهاء والمكرمين لديهم ، ولا يحجب عنهم إلا الأذناب المهانون عندهم. وعن ابن عباس وقتادة : محجوبون عن رحمته. وعن ابن كيسان : عن كرامته.
(ثُمَّ إِنَّهُمْ) أي : بعد ما شاء الله تعالى من إمهالهم (لَصالُوا الْجَحِيمِ) أي : لداخلوا النار المحرقة.
(ثُمَّ يُقالُ) أي : تقول لهم الخزنة (هذَا) أي : العذاب (الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) أي : في دار الدنيا.
(كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (٣٣) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ
__________________
(١) أخرجه الترمذي في تفسير القرآن حديث ٣٣٣٤ ، وابن ماجه في الزهد حديث ٤٢٤٤ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٩٧.
(٢) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ١٠ / ١٨٩.