وهو مجازيهم عليه.
ولما ذكر قصة أصحاب الأخدود أتبعها ما يتفرّع من أحكام الثواب والعقاب فقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي : أحرقوهم بالنار ، يقال : فتنت الشيء إذا أحرقته ، والعرب تقول : فتن فلان الدرهم والدينار إذا أدخله الكور لينظر جودته. ونظيره (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) [الذاريات : ٧]. قال الرازي : ويحتمل أن يكون المراد : كلّ من فعل ذلك. قال : وهذا أولى لأنّ اللفظ عامّ والحكم عامّ ، والتخصيص ترك للظاهر من غير دليل.
ولما كانت التوبة مقبولة قبل الغرغرة ولو طال الزمان عبر سبحانه بأداة التراخي فقال تعالى : (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) أي : عن كفرهم وعما فعلوا.
(فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ) أي : بكفرهم (وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) أي : عذاب إحراقهم المؤمنين في الآخرة ، وقيل : في الدنيا فأحرقتهم كما تقدّم ، ومفهوم الآية أنهم لو تابوا لخرجوا من هذا الوعيد ، وذلك يدل على أنّ الله تعالى يقبل التوبة من القاتل المتعمد خلاف ما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما.
ولما ذكر سبحانه وعيد المجرمين ذكر ما أعدّ للمؤمنين بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) أي : أقرّوا بالإيمان من المقذوفين في النار وغيرهم من كل طائفة في كل زمان (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) تحقيقا لإيمانهم (لَهُمْ جَنَّاتٌ) أي : بساتين تفضلا منه تعالى (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أي : تحت غرفها وأسرّتها وجميع أماكنها (الْأَنْهارُ) يتلذذون ببردها في نظير ذلك الحرّ الذي صبروا عليه في الدنيا ، ويزول عنهم برؤية ذلك مع خضرة الجنان جميع المضارّ والأحزان.
(ذلِكَ) أي : الأمر العالي الدرجة العظيم البركة (الْفَوْزُ) أي : الظفر بجميع المطالب (الْكَبِيرُ) وهو رضا الله تعالى لا دخول الجنة.
وقال تعالى : (ذلِكَ الْفَوْزُ) ولم يقل تلك ، لأنّ ذلك إشارة إلى إخبار الله تعالى بحصول الجنان وتلك إشارة إلى الجنة الواحدة ، وإخبار الله تعالى عن ذلك يدل على كونه راضيا.
(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٦) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢))
(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ) أي : أخذ المحسن إليك المربي لك المدبر لأمرك الجبابرة والظلمة (لَشَدِيدٌ) كقوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود : ١٠٢] قال المبرّد : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ) جواب القسم ، والبطش هو الأخذ بعنف فإذا وصف بالشدّة فقد تضاعف.
ولما كان هذا البطش لا يتأتى إلا لكامل القدرة دل على كمال قدرته واختصاصه بذلك بقوله تعالى مؤكدا لما له من الإنكار : (إِنَّهُ هُوَ) أي : وحده (يُبْدِئُ) أي : يوجد ابتداء أيّ خلق أراد إلى أيّ هيئة أراد (وَيُعِيدُ) أي : ذلك المخلوق عند البعث. وروى عكرمة قال : عجب الكفار من إحياء الله تعالى الأموات أي : فنزلت.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : يبدئ لهم عذاب الحريق في الدنيا ثم يعيده عليهم في