عليه في الحقيقة ، ولم يخلق الله تعالى دابة في بطنها أمّها إلا منكبة على وجهها إلا ابن آدم فإنه منتصب انتصابا.
وقال ابن كيسان : منتصبا في بطن أمه فإذا أراد الله تعالى أن يخرجه من بطن أمه قلب رأسه إلى رجلي أمه. وقال الحسن : يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة. وقال يمان : لم يخلق الله تعالى خلقا يكابد ما يكابد ابن آدم ، وهو مع ذلك أضعف الخلق.
قال بعض العلماء أوّل ما يكابد قطع سرته ثم إذا قمط قماطا وشدّ رباطا يكابد الضيق والتعب ، ثم يكابد الارتضاع ، ولو فاته ضاع ، ثم يكابد نبت أسنانه ، ثم يكابد الفطام الذي هو أشدّ من اللطام ، ثم يكابد الختان والأوجاع ، ثم المعلم وصولته ، والمؤدب وسياسته ، والأستاذ وهيبته ، ثم يكابد شغل التزويج ، وشغل الأولاد والخدم ، وشغل المسكن والجيران ، ثم الكبر والهرم ، وضعف الركب والقدم ، في مصائب يكثر تعدادها من صداع الرأس ووجع الأضراس ، ورمد العين ، وهمّ الدين ، ووجع السنّ ، وألم الأذن ، ويكابد محنا في المال والنفس من الضرب والحبس ، ولا يمضي عليه يوم إلا يقاسي فيه شدّة ، ثم يكابد بعد ذلك مشقة الموت ، ثم بعده سؤال الملك وضغطة القبر وظلمته ، ثم البعث والعرض على الله تعالى إلى أن يستقرّ به القرار ، إما في الجنة وإما في النار ، فدل هذا على أنّ له خالقا دبره وقضى عليه بهذه الأحوال ، ولو كان الأمر إليه ما اختار هذه الشدائد فليتمثل أمر خالقه. وقال ابن زيد : المراد بالإنسان هنا آدم عليهالسلام.
وقوله تعالى : (فِي كَبَدٍ ،) أي : في وسط السماء. وقال مقاتل : في كبد ، أي : في قوّة نزلت في أبي الأشدين ، واسمه أسيد بن كلدة بن جمح ، وكان شديدا قويا ، يضع الأديم العكاظي تحت قدميه فيقول : من أزالني عنه فله كذا وكذا ، فيجذبه عشرة فيتمزق الأديم من تحت قدميه ، ولا تزول قدماه ويبقى موضع قدميه ، وكان من أعداء النبيّ صلىاللهعليهوسلم وفيه نزل.
(أَيَحْسَبُ ،) أي : أيظنّ الإنسان قويّ قريش ، وهو أبو الأشدين بقوّته ، (أَنْ) مخففة من الثقيلة واسمها محذوف ، أي : أنه (لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ ،) أي : خاصة (أَحَدٌ ،) أي : من أهل الأرض أو السماء فيغلبه حتى أنه يعاند خالقه ، والله تعالى قادر عليه في كل وقت. وقيل : نزلت في المغيرة بن الوليد المخزومي.
(يَقُولُ ،) أي : يفتخر بقوّته وشدّته (أَهْلَكْتُ ،) أي : على عداوة محمد صلىاللهعليهوسلم (مالاً لُبَداً ،) أي : كثيرا بعضه على بعض.
(أَيَحْسَبُ ،) أي : هذا الإنسان العنيد بقلة عقله (أَنْ ،) أي : أنه (لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) قال سعيد بن جبير : ، أي : أظنّ أن الله تعالى لم يره ولا يسأله عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وقال الكلبي : إنه كان كاذبا في قوله أنه أنفقه ولم ينفق جميع ما قال ، والمعنى : أيظنّ أن الله تعالى لم ير ذلك منه فيعلم مقدار نفقته.
وقرأ (أَيَحْسَبُ) في الموضعين ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين والباقون بكسرها.
ثم ذكره نعمه عليه ليعتبر بقوله تعالى : (أَلَمْ نَجْعَلْ ،) أي : بما لنا من القدرة التامّة (لَهُ عَيْنَيْنِ) يبصر بهما المرئيات وإلا تعطل عليه أكثر ما يريد ، شققناهما وهو في الرحم في ظلمات ثلاث على مقدار مناسب لا تزيد إحداهما على الأخرى شيئا ، وقدرنا البياض والسواد والشهلة والزرقة وغير ذلك على ما ترون ، وأودعناهما البصر على كيفية يعجز الخلق عن إدراكهما.