والأحوال من مؤمن وكافر ، وآمن وخائف ، ومطيع وعاص. وعن ابن عباس : متفرّقين على قدر أعمالهم أهل الإيمان على حدة ، أو متفرّقين فآخذ ذات اليمين على الجنة ، وآخذ ذات الشمال إلى النار (لِيُرَوْا) أي : يري الله تعالى المحسن منهم والمسيء بواسطة من شاء من جنوده ، أو بغير واسطة حين يكلم سبحانه كل أحد من غير ترجمان ولا واسطة كما أخبر بذلك رسوله صلىاللهعليهوسلم. (أَعْمالَهُمْ) فيعلموا جزاءها ، أو صادرين عن الموقف كل إلى داره ليرى جزاء عمله ، ثم سبب عن ذلك قوله تعالى مفصلا الجملة التي قبله : (فَمَنْ يَعْمَلْ) من محسن أو مسيء ، مسلم أو كافر (مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً) أي : من جهة الخير (يَرَهُ) أي : يرى ثوابه حاضرا لا يغيب عنه شيء منه ، لأنّ المحاسب له الإحاطة علما وقدرة.
(وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) فالمؤمن يراه ليشتدّ سروره به ، والكافر يوقف على عمله أنه أحبط لبنائه على غير أساس الإيمان ، أو على أنه جوزي في الدنيا فهو صورة بلا معنى ليشتدّ ندمه وتبقى حسرته. وعن ابن عباس : من يعمل من الكفار خيرا يره في الدنيا ولا يثاب عليه في الآخرة ، ومن يعمل مثقال ذرّة من شر عوقب عليه في الآخرة مع عقاب الشرك ، ومن يعمل مثقال ذرّة من شر من المؤمنين يره في الدنيا ولا يعاقب عليه في الآخرة إذا تاب ويتجاوز عنه ، وإن عمل مثقال ذرّة من خير يقبل منه ويضاعف في الآخرة.
وفي بعض الأحاديث : إنّ الذرّة لا زنة لها ، وهذا مثل ضربه الله تعالى ليبين أنه لا يغفل عن عمل ابن آدم صغيرا ولا كبيرا ، وهو كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) [النساء : ٤٠]. وذكر بعض أهل اللغة أنّ الذر أن يضرب الرجل يده على الأرض فما علق من التراب فهو الذر. وعن ابن عباس : إذا وضعت يدك على الأرض ورفعتها فكل واحدة مما لزق من التراب ذرّة ، وفسرها بعضهم بالنملة الصغيرة ، وبعضهم بالهباءة التي ترى طائرة في الشعاع الداخل من الكوة. وقال محمد كعب القرظي : فمن يعمل مثقال ذرّة من خير من كافر يرى ثوابه في الدنيا في نفسه وماله وأهله وولده ، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله تعالى خير ومن يعمل مثقال ذرّة من شرّ من مؤمن يرى عقوبته في الدنيا في نفسه وماله وأهله وولده حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله تعالى شرّ ، ودليله ما روى أنس «أن هذه الآية نزلت على النبيّ صلىاللهعليهوسلم وأبو بكر يأكل فأمسك وقال : يا رسول الله وإنا لنرى ما عملنا من خير وشرّ؟ فقال صلىاللهعليهوسلم : يا أبا بكر ما رأيت في الدنيا مما تكره فمثاقيل ذر الشر ويدّخر لكم مثاقيل ذر الخير حتى تعطوه يوم القيامة» (١). وقال أبو إدريس : إنّ مصداقه من كتاب الله عزوجل : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى : ٣٠]. وقال مقاتل : نزلت في رجلين أحدهما كان يأتيه السائل فيستقل أن يعطيه التمرة والكسرة والجوزة ، وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير كالكذبة والغيبة والنظرة ، ويقول : إنما وعد الله تعالى النار على الكبائر فنزلت هذه الآية لترغبهم في القليل من الخير يعطوه ولهذا قال صلىاللهعليهوسلم : «اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة» (٢) وتحذرهم من اليسير من الذنب ،
__________________
(١) أخرجه الطبري في تفسيره ١٠ / ٩٦ ، ٢٠ / ١٨ ، والقرطبي في تفسيره ٨ / ١٤٦ وابن كثير في تفسيره ٤ / ٩٥ ، ٥ / ١٣٨ ، ٨ / ٤٨٤.
(٢) أخرجه البخاري في المناقب حديث ٣٥٩٥ ، ومسلم في الزكاة حديث ١٠١٦ ، والنسائي في الزكاة حديث ٢٥٥٣.