وقوله تعالى : (ثُمَّ لَتَرَوُنَّها) تكرير للتأكيد ، والأولى إذا رأتهم من مكان بعيد ، والثانية إذا وردوها والمراد بالأولى المعرفة والثانية الإبصار. (عَيْنَ الْيَقِينِ) أي : الرؤية التي هي نفس اليقين ، فإن علم المشاهدة أعلى مراتب اليقين. قال الرازي : واليقين مركب الإخلاص في هذا الطريق ، وهو غاية درجات العامة وأوّل خطوة الخاصة. قال صلىاللهعليهوسلم : «خير ما ألقي في القلب اليقين» (١) وعلمه قبول ما ظهر من الحق وقبول ما غاب للحق والوقوف على ما قام بالحق. وقال قتادة : اليقين هنا الموت ، وعنه أيضا. البعث ، أي ، لو تعلمون علم الموت ، أو البعث فعبر عن الموت باليقين ، والعلم من أشدّ البواعث على العمل. وقيل : لو تعلمون اليوم في الدنيا علم اليقين بما أمامكم مما وصفت ..
(لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) بعيون قلوبكم ، فإنّ علم اليقين يريك الجحيم بعين فؤادك. وقرأ لترون ابن عامر والكسائي بضم التاء ، والباقون بالفتح.
(ثُمَّ لَتُسْئَلُنَ) حذف منه نون الرفع لتوالي النونات ، والواو لالتقاء الساكنين (يَوْمَئِذٍ) أي : يوم رؤيتها (عَنِ النَّعِيمِ) وهو ما يلتذ به في الدنيا من الصحة والفراغ والأمن والمطعم والمشرب وغير ذلك ، والمراد بذلك ما يشغله عن الطاعة للقرينة والنصوص الكثيرة كقوله تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ) [الأعراف : ٣٢] وقوله تعالى : (كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) [المؤمنون : ٥١] وقال الحسن : لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار ، لأنّ أبا بكر رضي الله عنه لما نزلت هذه الآية قال : يا رسول الله ، أرأيت أكلة أكلتها معك في بيت أبي الهيثم من خبز وشعير ولحم وبسر وماء عذب ، أيكون من النعيم الذي يسأل عنه ، فقال صلىاللهعليهوسلم : «إنما ذلك للكفار ثم قرأ صلىاللهعليهوسلم (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ)(٢) [سبأ : ١٧]» لأنّ ظاهر الآية يدل على ذلك لأنّ الكفار ألهاهم التكاثر بالدنيا والتفاخر بلذاتها عن طاعة الله تعالى ، والاشتغال بشكره فالله تعالى يسألهم عنها يوم القيامة حتى يظهر لهم أن الذي ظنوه لسعادتهم كان من أعظم الأسباب لشقاوتهم. وقيل : السؤال عام في حق المؤمن والكافر لقوله صلىاللهعليهوسلم : «أوّل ما يسأل العبد يوم القيامة عن النعيم فيقال له : ألم نصحح جسمك ، ألم نروك من الماء البارد؟» (٣). وقيل : الزائد على ما لا بدّ منه ، وقيل : غير ذلك. قال الرازي : والأولى على جميع النعم لأنّ الألف واللام تفيد الاستغراق وليس صرف اللفظ إلى البعض أولى من صرفه إلى الباقي ، فيسأل عنها هل شكرها أم كفرها.
وإذا قيل : إنّ هذا السؤال للكافر ، فقيل : هو في موقف الحساب ، وقيل : بعد دخول النار يقال لهم : إنما حل بكم هذا العذاب لاشتغالكم في الدنيا بالنعيم عن العمل الذي ينجيكم من هذه النار ، ولو صرفتم عمركم إلى طاعة ربكم لكنتم اليوم من أهل النجاة.
وقول البيضاوي تبعا للزمخشري عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم : «من قرأ ألهاكم التكاثر لم يحاسبه الله بالنعيم الذي أنعم به عليه في دار الدنيا ، وأعطي من الأجر كأنما قرأ ألف آية» (٤) حديث موضوع إلا آخره ، فرواه الحاكم بلفظ «ألا يستطيع أحدكم أن يقرأ ألف آية في كل يوم قالوا : ومن يستطيع أن يقرأ ألف آية؟ قال : أو ما يستطيع أحدكم أن يقرأ ألهاكم التكاثر» (٥).
__________________
(١) أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٢ / ٢٢٥ ، بلفظ : «خير ما وقر في القلوب اليقين».
(٢) أخرجه القرطبي في تفسيره ٢٠ / ١٧٧.
(٣) انظر القرطبي في تفسيره ٢٠ / ١٧٧.
(٤) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٨٠٠.
(٥) أخرجه الحاكم في المستدرك ١ / ٥٦٧ ، والسيوطي في الدر المنثور ٦ / ٣٨٦.