قال الشاعر (١) :
إذا انسلخ الشهر الحرام فودّعي |
|
بلاد تميم وانصري آل عامر |
ويروى :
إذا دخل الشهر الحرام فجاوزي |
|
بلاد تميم وانصري أرض عامر |
والفتح فتح البلاد ، وقال الرازي : الفرق بين النصر والفتح أنّ الفتح هو الإعانة على تحصيل المطلوب الذي كان متعلقا به ، والنصر كالسبب فلهذا بدأ بذكر النصر وعطف الفتح عليه.
فإن قيل : إنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان دائما منصورا بالدلائل والمعجزات فما المعنى : بتخصيص لفظ النصر بفتح مكة؟.
أجيب : بأنّ المراد من هذا النصر هو النصر الموافق للطبع. فإن قيل : النصر لا يكون إلا من الله تعالى ، قال الله تعالى : (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [آل عمران : ١٢٦] فما فائدة التقييد بنصر الله؟ أجيب : بأنّ معناه نصر لا يليق إلا بالله تعالى ، كما يقال هذا صنعة زيد إذا كان مشهورا بإحكام الصنعة والمقصود منه تعظيم حال تلك الصنعة فكذا ههنا. فإن قيل : الذين أعانوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم على فتح مكة هم أصحابه من المهاجرين والأنصار ، ثم إنه تعالى سمى نصرتهم لرسوله صلىاللهعليهوسلم نصر الله فما السبب في ذلك؟ أجيب : بأنّ النصر وإن كان على يد الصحابة لكن لا بدّ له من داع وباعث وهو من الله تعالى ، فإن قيل : فعلى هذا الجواب يكون فعل العبد مقدّما على فعل الله تعالى ، وهذا بخلاف النصر لأنه تعالى قال : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ) [محمد : ٧] فجعل نصره مقدّما على نصره لنا؟ أجيب : بأنه لا امتناع في أن يكون فعل العبد سببا لفعل آخر يصدر على الله تعالى ، فإنّ أسباب الحوادث ومسبباتها على ترتيب عجيب تعجز عن إدراكه العقول البشرية.
ولما عبر عن المعنى بالمجيء عبر عن المرئي بالرؤية فقال تعالى : (وَرَأَيْتَ ،) أي : ببصرك الناس ، أي : العرب الذي كانوا حقيرين عند جميع الأمم فصاروا بك هم الناس كما دلت عليه لام الكمال ، وصار سائر أهل الأرض لهم أتباعا بالنسبة إليهم رعاعا حال كونهم (يَدْخُلُونَ) شيئا فشيئا متجدّدا دخولهم مستمرّا (فِي دِينِ اللهِ ،) أي : شرع من لم تزل كلمته هي العليا (أَفْواجاً ،) أي : جماعات كثيفة كانت تدخل فيه القبيلة بأسرها بعد ما كانوا يدخلون واحدا واحدا واثنين اثنين.
وعن جابر بن عبد الله أنه بكى ذات يوم ، فقيل له في ذلك فقال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «دخل الناس في دين الله أفواجا وسيخرجون منه أفواجا» (٢). وقال عكرمة ومقاتل : أراد
__________________
(١) ويروى البيت بلفظ :
إذا دخل الشهر الحرام فودّعي |
|
بلاد تميم وانصري أرض عامر |
والبيت من الطويل ، وهو للراعي النميري في ديوانه ص ١٣٣ ، ولسان العرب (نصر) ، وتهذيب اللغة ١٢ / ١٦٠ ، وتاج العروس (نصر) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٧٤٤ ، ومقاييس اللغة ٥ / ٤٣٥ ، ومجمل اللغة ٤ / ٤٠٨ ، وكتاب الجيم ٣ / ٢٥٨.
(٢) أخرجه أحمد في المسند ٣ / ٣٤٣ ، والدارمي في المقدمة حديث ٩٠ ، بلفظ : «ليخرجن منها أفواجا كما دخلوه أفواجا».