فإذا ذكر العبد ربه خنس ، ويقال : رأسه كرأس الحية واضع رأسه على ثمرة القلب يمسه ، فإذا ذكر الله تعالى خنس ورجع ووضع رأسه فذلك قوله تعالى : (الَّذِي يُوَسْوِسُ ،) أي : يلقي المعاني الضارة على وجه الخفاء والتكرير (فِي صُدُورِ النَّاسِ ،) أي : المضطربين إذا أغفلوا عن ذكر ربهم من غير سماع. وقال مقاتل : إنّ الشيطان في صورة خنزير يجري من ابن آدم مجرى الدم في عروقه سلطه الله تعالى على ذلك. وقال القرطبي : وسوسته هي الدعاء إلى إطاعته بكلام خفيّ يصل مفهومه إلى القلب من غير سماع صوت.
تنبيه : يجوز في محل (الَّذِي يُوَسْوِسُ) الحركات الثلاث ، فالجرّ على الصفة والرفع والنصب على الشتم ، ويحسن أن يقف القارئ على الخناس ويبتدئ الذي يوسوس على أحد هذين الوجهين.
وقوله تعالى : (مِنَ الْجِنَّةِ ،) أي : الجنّ الذين هم في غاية الشر والتمرد ، والخناس (وَالنَّاسِ ،) أي : أهل الاضطراب والذبذبة بيان للذي يوسوس على أن الشيطان ضربان : جني وأنسي كما قال تعالى : (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) [الأنعام : ١١٢] ويجوز أن يكون بدلا من الذي يوسوس ، أي : الموسوس من الجن والإنس ، وأن يكون حالا من الضمير في يوسوس ، أي : حال كونه من هذين الجنسين. وقيل : غير ذلك. قال الحسن : هما شيطانان لنا أما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس ، وأما شيطان الإنس فيأتي علانية. وقال قتادة : إن من الجن شياطين ، وإنّ من الإنس شياطين. فنعوذ بالله من شياطين الجنّ والإنس. وعن أبي ذر قال لرجل هل تعوّذت بالله من شيطان الإنس ، فقال : أو من الإنس شياطين؟ قال : نعم لقوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) [الأنعام : ١١٢] الآية.
وذهب قوم إلى أنّ المراد بالناس هنا الجن سموا ناسا كما سموا رجالا في قوله تعالى : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ) [الجن : ٦] وكما سموا نفرا في قوله تعالى : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) [الجن : ١] وكما سموا قوما نقل الفراء عن بعض العرب أنه قال وهو يحدّث جاء قوم من الجنّ فوقفوا ، فقيل : من أنتم؟ فقالوا : ناس من الجنّ ، فعلى هذا يكون والناس عطفا على الجنة ويكون التكرير لاختلاف اللفظين. والجنة جمع جني كما يقال : أنس وأنسي والهاء لتأنيث الجماعة. وقيل : إنّ إبليس يوسوس في صدور الجنّ كما يوسوس في صدور الناس فعلى هذا يكون في صدور الناس عاما في الجميع.
و (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) بيانا لما يوسوس في صدورهم. وقيل : معنى (مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ) الوسوسة التي تكون (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) وهو حديث النفس.
قال صلىاللهعليهوسلم : «إنّ الله تعالى تجاوز لأمّتي عما حدّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به» (١) وعن عقبة بن عامر قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : ألم تر آيات نزلت الليلة لم ير مثلهنّ قط (أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و (أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)(٢). وعنه أيضا أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ألا أخبرك بأفضل ما تعوّذ
__________________
(١) أخرجه البخاري في الأيمان حديث ٦٦٦٤ ، ومسلم في الإيمان حديث ١٢٧ ، والنسائي في الطلاق حديث ٣٤٣٤ ، وابن ماجه في الطلاق حديث ٢٠٤٠.
(٢) أخرجه مسلم في المسافرين حديث ٨١٤ ، والنسائي في الافتتاح حديث ٩٥٣.