يعلم بانفراده بتدبيرهم بعد إبداعهم أنه المستحق للإلهية بلا مشارك له فيها.
فائدة : قد أجمع جميع القراء في هذه السورة على إسقاط الألف من مالك ، بخلاف الفاتحة كما مضى لأنّ المالك إذا أضيف إلى اليوم أفهم اختصاصه بجميع ما فيه من جوهر وعرض ، وأنه لا أمر لأحد معه ، ولا مشاركة في شيء من ذلك ، وهو معنى الملك بالضم. وأمّا إضافة المالك إلى الناس فإنها لا تستلزم أن يكون ملكهم ، فلو قرئ به هنا لنقص الملك بالضم ، وأطبقوا في آل عمران على إثبات الألف في المضاف وحذفها من المضاف إليه ، لأنّ المقصود من السياق أنه سبحانه يعطي الملك من يشاء ويمنعه من يشاء. والملك بكسر الميم أليق بهذا المعنى ، وأسرار كلام الله تعالى أعظم من أن تحيط بها العقول ، وإنما غاية أولي العلم الاستدلال بما ظهر منها.
تنبيه : يجوز في ملك الناس وإله الناس أن يكونا وصفين لرب الناس ، وأن يكونا بدلين ، وأن يكونا عطف بيان ، واقتصر عليه الزمخشري قال : كقولك : سيرة أبي حفص عمر الفاروق بين بملك الناس ، ثم زيد بيانا بإله الناس ، لأنه قد يقال لغيره : رب الناس كقوله تعالى : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) [التوبة : ٣١] وقد يقال : ملك الناس. وأمّا إله الناس فخاص لا شركة فيه فجعل غاية للبيان. فإن قيل : هلا اكتفى بإظهار المضاف إليه الذي هو الناس مرّة واحدة؟ أجيب : بأنّ عطف البيان للبيان فكان مظنة للإظهار دون الإضمار.
(مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ) وهو اسم بمعنى الوسوسة كالزلزال بمعنى الزلزلة ، وأمّا المصدر فوسواس بالكسر كزلزال ، والمراد به شيطان سمي بالمصدر كأنه وسوس في نفسه ، لأنها صنعته وشغله الذي هو عاكف عليه أو أريد ذو الوسواس والوسوسة الصوت الخفي ، ويقال لحس الصائد ، والكلاب ، وأصوات الحلي : وسواس. «والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» (١). كما في الصحيح فهو الذي يوسوس بالذنب سرا ليكون أحلى ، ولا يزال يزينه ويثير الشهوة الداعية إليه حتى يوقع الإنسان ، فإذا أوقعه وسوس لغيره أن فلانا فعل كذا حتى يفضحه بذلك ، فإذا افتضح ازداد جراءة على أمثال ذلك كأنه يقول : قد وقع ما كنت أحذر من إيقاعه فلا يكون شيء غير الذي كان فيجترئ على الذنب.
ولما كان الله تعالى لم ينزل داء إلا أنزل دواء غير السام وهو الموت ، وكان قد جعل دواء الوسوسة ذكره تعالى فإنه يطرد الشيطان وينير القلب ويصفيه ، وصف سبحانه الموسوس عند استعماله الدواء بقوله تعالى : (الْخَنَّاسِ ،) أي : الذي عادته أن يخنس ، أي : يتوارى ويتأخر ويختفي بعد ظهوره مرّة بعد مرّة كلما كان الذكر خنس وكلما بطل عاد إلى وسواسه ، فالذكر له كالمقامع التي تقمع المفسد فهو شديد النفور منه ، ولهذا كان شيطان المؤمن هزيلا كما حكي عن بعض السلف أنّ المؤمن يضني شيطانه كما يضني الرجل بعيره في السفر.
قال قتادة : الخناس له خرطوم كخرطوم الكلب ، وقيل : كخرطوم الخنزير في صدر الإنسان ،
__________________
(١) هو من حديث رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وقد روي بطرق وأسانيد متعددة ، انظر البخاري في الأحكام باب ٢١ ، وبدء الخلق باب ١١ ، والاعتكاف باب ١١ ، ١٢ ، وأبا داود في الصوم باب ٧٨ ، والسنة باب ١٧ ، والأدب باب ٨١ ، وابن ماجه في الصيام باب ٦٥ ، والدارمي في الرقاق باب ٦٦ ، وأحمد في المسند ٣ / ١٥٦ ٢٨٥ ، ٣٠٩ ، ٦ / ٣٣٧.