قال تعالى دالا على ذلك وعلى أن تهجدهم متصل بآخر الليل : (وَبِالْأَسْحارِ) قال ابن زيد : السحر السدس الأخير من الليل (هُمْ) أي : دائما بظواهرهم وبواطنهم (يَسْتَغْفِرُونَ) أي : يعدون مع هذا الاجتهاد أنفسهم مذنبين ويسألون غفران ذنوبهم لوفور علمهم بالله تعالى ، وأنهم لا يقدرون على أن يقدروه حق قدره وإن اجتهدوا لقول سيد الخلق محمد صلىاللهعليهوسلم «لا أحصي ثناء عليك» (١) وإبراز الضمير دلّ على أنّ غيرهم لو فعل هذا ليلة لأعجب بنفسه ورأى أنه لا أحد أفضل منه ، وعلى أنّ استغفارهم في الكثرة يقتضي أنهم يكونون بحيث يظنّ أنهم أحق بالتذلل من المصرّين على المعاصي ، فإنّ استغفارهم ذلك على بصيرة لأنهم نظروا ما له سبحانه في الآفاق وفي أنفسهم من الآيات والحكم البالغة فأقبلوا على الاستغفار عالمين بأنه تعالى لا يقدر حق قدره.
تنبيه : بالأسحار متعلق بيستغفرون والباء بمعنى في وقدم متعلق الخبر على المبتدأ لجواز تقديم العامل.
وقال الكلبي ومجاهد : بالأسحار يصلون وذلك أنّ صلاتهم بالأسحار لطلب المغفرة روى أبو هريرة أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ينزل الله إلى السماء كل ليلة حتى يبقى ثلث الليل فيقول أنا الملك أنا الملك من الذي يدعوني فأستجيب له ، من الذي يسألني فأعطيه من الذي يستغفرني فأغفر له» (٢) وهذا الحديث من أحاديث الصفات وفيه مذهبان معروفان :
أحدهما : وهو مذهب السلف وغيرهم أنه يمّر كما جاء من غير تأويل ولا تعطيل وترك الكلام فيه وفي أمثاله مع الإيمان به وتنزيه الرب سبحانه عن صفات الأجسام.
المذهب الثاني : وهو قول جماعة من المتكلمين وغيرهم أنّ الصعود والنزول من صفات الأجسام فالله تعالى منزه عن ذلك فعلى هذا يكون معناه نزول الرحمة والألطاف الإلهية والإقبال على الداعين بالإجابة واللطف وتخصيصه بالثلث الأخير من الليل ، لأنّ ذلك وقت التهجد والدعاء وغفلة أكثر الناس وعن ابن عباس أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم كان إذا قام من الليل يتهجد قال : «اللهمّ لك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهنّ ، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهنّ ، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهنّ ، ولك الحمد أنت الحق ووعدك حق ولقاؤك حق وقولك حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق ومحمد حق والساعة حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدّمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت» (٣) وزاد في رواية «وما أنت أعلم به مني أنت المقدّم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت ولا إله غيرك» (٤) زاد النسائي «ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» (٥).
__________________
(١) أخرجه مسلم في الصلاة حديث ٤٨٦ ، وأبو داود في الصلاة حديث ٨٧٩ ، والترمذي في الدعوات حديث ٢٤٩٣ ، والنسائي في التطبيق حديث ١١٠٠ ، ١١٣٠ ، وابن ماجه في الدعاء حديث ٣٨٤١ ، ومالك في مسّ القرآن حديث ٣١ ، وأحمد في المسند ١ / ٩٦ ، ١١٨ ، ١٥٠ ، ٦ / ٥٨.
(٢) أخرجه مسلم في المسافرين حديث ٧٥٨ ، والترمذي في الصلاة حديث ٤٤٦.
(٣) أخرجه البخاري في التوحيد حديث ٧٣٨٥ ، ومسلم في المسافرين حديث ٧٦٩ ، وأبو داود في الصلاة حديث ٧٧١ ، والترمذي في الدعوات حديث ٣٤١٨
(٤) أخرجه البخاري في الدعوات حديث ٦٣١٧ ، وابن ماجه في الإقامة حديث ١٣٥٥.
(٥) أخرجه النسائي في قيام الليل حديث ١٦١٩.