ولما ذكر تعالى معاملتهم للخالق أتبعه المعاملة للخلائق تكميلا لحقيقة الإحسان فقال تعالى : (وَفِي أَمْوالِهِمْ) أي كل أصنافها (حَقٌ) أي نصيب ثابت (لِلسَّائِلِ) أي الذي ينبه على حاجته بسؤال الناس وهو المتكفف (وَالْمَحْرُومِ) وهو المتعفف الذي لا يجد ما يغنيه ولا يسأل الناس ولا يفطن له ليتصدّق عليه وهذه صفة أهل الصفة رضي الله تعالى عنهم ، فالمحسنون يعرفون صاحب الوصف لما لهم من ناقد البصيرة ولله تعالى بهم العناية ، وقدم السائل لأنه يعرف بسؤاله أو يكون إشارة إلى كثرة العطاء فيعطي السؤال ، فإذا لم يجدهم يسأل عن المحتاجين فيكون سائلا ومسؤولا.
وقيل قدّم السائل لتجانس رؤوس الآي. وقيل : السائل هو الآدمي ، والمحروم كل ذي روح غيره من الحيوانات المحترمة قال صلىاللهعليهوسلم : «في كل كبد حراء أجر» (١) وهذا ترتيب حسن لأنّ الآدمي مقدّم على البهائم ، وقال ابن عباس وسعيد بن المسيب : السائل الذي يسأل الناس والمحروم الذي ليس له في الغنائم سهم ولا يجري عليه من الفيء شيء ، وقال قتادة والزهري : المحروم المتعفف الذي لا يسأل الناس وقال زيد بن أسلم : المحروم هو المصاب ثمره أو زرعه أو نسل ما شيته وهو قول محمد بن كعب القرظي قال : المحروم صاحب الجائحة ثم قرأ (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) [الواقعة : ٦٦ ـ ٦٧].
(وَفِي الْأَرْضِ) أي من الجبال والبحار والأشجار والثمار والنبات وغيرها (آياتٌ) أي دلالات على قدرة الله تعالى ووحدانيته (لِلْمُوقِنِينَ) أي الذين صار الإيقان لهم غريزة ثابتة فهم لذلك يتفطنون لرؤية ما فيها قال القشيري : من الآيات فيها أنها تحمل كل شيء ، فكذلك العارف يحمل كل أحد ومن استثقل أحدا أو تبرم برؤية أحد فلغيبته عن الحقيقة ومطالعته الخلق بعين التفرقة ، وأهل الحقائق لا يتصفون بهذه الصفة ، ومن الآيات فيها أنه يلقي عليها كل قذر وقمامة فتنبت كل زهر ونور فكذلك العارف يتشرّب ما يسقى من الجفاء ولا يترشح إلا بكل خلق حسن عليّ وشيمة زكية.
(وَفِي أَنْفُسِكُمْ) آيات أيضا من مبدإ خلقكم إلى منتهاه ، وما في تركيب خلقكم من العجائب (أَفَلا تُبْصِرُونَ) أي : بأبصاركم وبصائركم فتتأمّلوا ما في ذلك من الآيات فمن تأمّلها علم أنه عبد ، ومتى علم ذلك علم أن له ربّا غير محتاج إلى أحد.
(وَفِي السَّماءِ) أي : جهة العلو (رِزْقُكُمْ) بما يأتي من المطر والرياح والحرّ والبرد وغير ذلك مما رتبه سبحانه وتعالى لمنافع العباد ، وقال ابن عباس يعني بالرزق المطر لأنه سبب الأرزاق ، وقيل : في السماء رزقكم مكتوب وقيل تقدير الأرزاق كلها من السماء ولو لاه لما حصل في الأرض حبة قوت (وَما تُوعَدُونَ) قال عطاء : من الثواب والعقاب وقال مجاهد : من الخير والشرّ وقال الضحاك : من الجنة والنار.
ثم أقسم سبحانه وتعالى بنفسه فقال عز من قائل : (فَوَ رَبِ) أي : مبدع ومدبر (السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي : وما أودع فيهما مما علمتموه وما لم تعلموه (إِنَّهُ) أي : الذي توعدونه من الخير
__________________
(١) روي الحديث بطرق وأسانيد متعددة ، أخرجه البخاري في المساقاة باب ٩ ، والمظالم باب ٢٣ ، والأدب باب ٢٧ ، ومسلم في السلام حديث ١٥٣ ، وأبو داود في الجهاد باب ٤٤ ، وابن ماجه في الأدب باب ٨ ، ومالك في صفة النبي صلىاللهعليهوسلم حديث ٢٣ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٢٢ ، ٣٧٥ ، ٥١٧ ، ٤ / ١٧٥.