الآخرة هو التباين الحقيقيّ في المنازل ؛ قال الفخر (١) : بيّن تعالى أنّ كلّ ذلك متاع الحياة الدنيا ، وأمّا الآخرة فهي باقية دائمة ، وهي عند الله وفي حكمه للمتّقين المعرضين عن حبّ الدنيا ، المقبلين على حبّ المولى ، انتهى.
(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ)(٤٢)
وقوله عزوجل : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) الآية ، وعشا يعشو معناه : قلّ الإبصار منه ، ويقال أيضا : عشي الرجل يعشى : إذا فسد بصره ، فلم ير ، أو لم ير إلّا قليلا ، فالمعنى في الآية : ومن يقلّ بصره في شرع الله ، ويغمض جفونه عن النظر في ذكر الرحمن ، أي : فيما ذكّر به عباده ، أي : فيما أنزله من كتابه ، وأوحاه إلى نبيّه.
وقوله : (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً) أي : نيسّر له ، ونعدّ ، وهذا هو العقاب على الكفر بالحتم وعدم الفلاح ، وهذا كما يقال : إنّ الله تعالى يعاقب على المعصية بالتزيّد في المعاصي ، ويجازي على الحسنة بالتزيّد من الحسنات ، وقد روي هذا المعنى مرفوعا. قال ـ ص ـ : (وَمَنْ يَعْشُ) الجمهور بضم الشين (٢) ، أي : يتعام ويتجاهل ، ف (مَنْ) شرطية ، و (يَعْشُ) مجزوم بها ، و (نُقَيِّضْ) جواب (مَنْ) ، انتهى ، والضمير في قوله : (وَإِنَّهُمْ) عائد على الشياطين ، وفيما بعده عائد على الكفّار ، وقرأ نافع وغيره (٣) : «حتّى إذا جاءانا» ؛ على التثنية ، يريد : العاشي والقرين ؛ قاله قتادة وغيره (٤) ، وقرأ أبو عمرو وغيره : «جاءنا» يريد العاشي وحده (٥) ، وفاعل (قالَ) هو العاشي ، قال الفخر (٦) : وروي أنّ الكافر
__________________
(١) ينظر : «الرازي» (٢٧ / ١٨٢)
(٢) ينظر : «الدر المصون» (٦ / ٩٨)
(٣) وقرأ بها ابن كثير وابن عامر ، وأبو بكر.
ينظر : «السبعة» (٥٨٦) ، و «الحجة» (٦ / ١٥٠) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٢٩٧) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٣٦٥) ، و «شرح الطيبة» (٢ / ٢٢٢) ، و «العنوان» (١٧١) ، و «حجة القراءات» (٦٥٠) ، و «شرح شعلة» (٥٧٧) ، و «إتحاف» (٢ / ٤٥٦)
(٤) أخرجه الطبري (١١ / ١٨٩) برقم : (٣٠٨٦٩) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٥٥)
(٥) ينظر : مصادر القراءة السابقة.
(٦) ينظر : «تفسير الفخر الرازي» (٢٧ / ١٨٣)