في «أقبلوا» لكفّار قومه و (يَزِفُّونَ) معناه : يسرعون ، واختلف المتأوّلون في قوله : (وَما تَعْمَلُونَ) فمذهب جماعة من المفسرين : أن «ما» مصدرية ، والمعنى : أنّ الله خلقكم وأعمالكم ، وهذه الآية عندهم قاعدة في خلق الله تعالى أفعال العباد ؛ وهو مذهب أهل السّنّة (١) ، وقالت فرقة : «ما» بمعنى : الّذي ، و «البنيان» قيل : كان في موضع إيقاد النار ،
__________________
(١) المراد من أفعال العباد : المعنى الحاصل بالمصدر الذي هو متعلق الإيجاد والإيقاع ، أعني ما نشاهده من الحركات والسكنات مثلا ، لا المعنى المصدري الذي هو الإيجاد والإيقاع ، لأنه من الأمور اللاموجودة واللامعدودة المسماة بالحال كما ذهبت إليه مشايخ الحنفية ، واختاره القاضي أبو بكر الباقلاني ، وإمام الحرمين من الأشاعرة ؛ أو هو أمر اعتباري عند نفاة الحال ، فلا يتعلق به خلق ولا إيجاد وإلا لزم التسلسل ، وإطلاق المصدر على المعنى الحاصل بالمصدر ، وإن كان مجازا من قبيل إطلاق اللازم وإرادة الملزوم ، إلا أنه كثير الوقوع ، فلا يحتاج إلى قرينة. وتنقسم أفعال العباد إلى : اختيارية ، كحركة البطش ، وإلى : اضطرارية ، كحركة الارتعاش ، وإلى أفعال مباشرة ، وإلى أفعال متولدة ، كحركة المفتاح المتولدة من حركة اليد ، ثم إن أفعال العباد منها ما يتعلق بالجوارح ، ومنها ما يتعلق بالقلوب ، هذا كله بالنسبة للمستيقظ.
وأما أفعال النائم فقد اختلفوا فيها ، فقال بعضهم : إنها مقدورة مكتسبة للنائم ، والنوم لا يضاد القدرة ، وإن كان يضاد العلم وغيره من الإرادات ، وقال بعضهم : إنها غير مقدورة له ، وأن النوم يضاد القدرة كما يضاد العلم ، وبعضهم لا يقطع بكونها مكتسبة ، ولا بكونها ضرورية بل كلّ من الأمرين ممكن.
وقد استدل القائلون بأن أفعال النائم مقدورة له بما يأتي :
«أولا» : بأن النائم كان قادرا في يقظته ، وقدرته باقية ، والنوم لا ينافيها ، فوجب استصحاب حكمها.
«ثانيا» : بأن النائم إذا انتبه فهو على ما كان عليه في نومه ، ولا يتجدد أمر وراء زوال النوم ، وهو قادر بعد الانتباه ، وزوال النوم غير موجب للاقتدار ، ولا وجوده نافيا للقدرة.
«ثالثا» : قد يوجد من النائم ، ما لو وجد منه في حال اليقظة ، لكان واقعا على حسب الداعي والاختيار ، والنوم ، وإن نافى القصد فلا ينافي القدرة.
«رابعا» : نجد تفرقة ضرورية بين حركة النائم ، وحركة المرتعش ، وما ذاك إلا أن حركته مقدورة له ، وحركة المرتعش غير مقدورة له.
وقال النافون المقدرة : قولكم : النوم لا ينافي القدرة : دعوى كاذبة ؛ فإن النائم منفعل محضا متأثر صرفا ولهذا لا يمتنع ممن يؤثر فيه ، وقولكم : لم يتجدد له أمر غير زوال النوم ، غير مسلم به ؛ لأن التجدد :
زوال المانع من القدرة ، فعاد إلى ما كان عليه ؛ كمن أوثق غيره رباطا ، ومنعه من الحركة ، فإذا حلّ رباطه ، تجدد زوال المانع.
والتحقيق : أن حركة النائم ضرورية له غير مكتسبة ، وكما فرقنا في حق المستيقظ بين حركة ارتعاشه وحركة تصفيقه ، كذلك نجد تفرقة ضرورية بين حركة النائم وحركة المستيقظ وعلى كلّ حال فالمثبتون للقدرة وهم المعتزلة وبعض الأشعرية والنافون لها وهم : أبو إسحاق وغيره ، والمتوقفون في ذلك هم : جمهور الأشعرية ، والقاضي أبو بكر ، متفقون على أن أفعال النائم غير داخلة تحت التكليف.
أما أفعال الساهر فاختيارية ؛ لأنه وإن كان يفعل الفعل مع غفلته وذهوله ، فهو إنما يفعله بقدرته ؛ إذ لو كان عاجزا لما تأتى منه الفعل وله إرادة لكن غافل عنها ؛ فالإرادة شيء ، والشعور بها شيء آخر. ـ