فراسخه ، وأيامه أمياله ، وأنفاسه خطواته ، وطاعته بضاعته ، وأوقاته رؤوس أمواله ، وشهواته وأغراضه قطاع طريقه ، وربحه الفوز بلقاء الله ـ عزوجل ـ في دار السلام مع الملك الكبير والنعيم المقيم ، وخسرانه البعد من الله ـ عزوجل ـ مع الأنكال والأغلال والعذاب الأليم في دركات الجحيم ، فالغافل عن نفس واحد من أنفاسه ، حتى ينقضي في غير طاعة تقرّبه إلى الله تعالى زلفى متعرّض في يوم التّغابن لغبينة وحسرة ما لها منتهى ، ولهذا الخطر العظيم والخطب الهائل شمّر الموفّقون عن ساق الجدّ ، وودّعوا بالكلية ملاذّ النفس ، واغتنموا بقايا العمر ، فعمّروها بالطاعات ، بحسب تكرّر الأوقات ، انتهى ، قال الشيخ أبو مدين ـ رحمهالله ـ : عمرك نفس واحد فاحرص [أن يكون] لك / لا عليك ، انتهى ، والله الموفّق بفضله ، و (النُّشُورُ) : الحياة بعد الموت ، و (تَمُورُ) معناه : تذهب وتجيء ، كما يذهب التراب الموار في الريح ، والحاصب البرد وما جرى مجراه ، والنكير مصدر بمعنى الإنكار ، والنذير كذلك ومنه قول حسان بن ثابت : [الوافر]
فأنذر مثلها نصحا قريشا |
|
من الرحمن إن قبلت نذيري (١) |
ثم أحال ـ سبحانه ـ على العبرة في أمر الطير وما أحكم من خلقتها ، وذلك بيّن عجز الأصنام والأوثان عنه ، و (صافَّاتٍ) جمع صافّة ، وهي التي تبسط جناحها وتصفّه ، وقبض الجناح ضمّه إلى الجنب ، وهاتان حالتان للطائر يستريح من إحداهما إلى الأخرى.
(أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (٢١) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٢) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٢٣) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)(٢٤)
وقوله سبحانه : (أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ) هذا أيضا توقيف على أمر لا مدخل للأصنام فيه.
وقوله سبحانه : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ) قال ابن عبّاس والضحاك ومجاهد : نزلت مثلا للمؤمنين والكافرين ؛ على العموم (٢) ، وقال قتادة : نزلت مخبرة عن حال القيامة ، وأنّ الكفار يمشون على وجوههم ، والمؤمنين يمشون على استقامة (٣) ، كما جاء
__________________
(١) البيت في «ديوانه» (٢٤٥) ، وفيه فأردف بدل فأنذر.
(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ١٧١) ، برقم : (٣٤٥١٠ ، ٣٤٥١٢) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٣٤٢)
(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ١٧١ ـ ١٧٢) ، برقم : (٣٤٥١٣ ، ٣٤٥١٥) ، وذكره البغوي (٤ / ٣٧٢) ، وابن عطية (٥ / ٣٤٢) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٨٥) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وعبد الرزاق ، وابن المنذر.