تناوب الحروف
«وهذا الباب في العربية دقيق المداخل والمخارج ، يفضي إلى غير قضية. وهو باب يمسك النحاة منه بطرف وأهل البيان بطرف ، لأنه باب يسلط فيه النظر على المبنى والمعنى. وللعلماء فيه مذاهب شتى ، ودروب متباينة ، وتأويلات مختلفة ، ولكنه ، على ما فيه من عناء ، ممتع شائق لطيف ، لأن النظر فيه عمل من إعمال العقل ، تنقدح الحقائق للناظر فيه بعد طول تأمل ، وإمعان نظر ، وبعد نفاذ في بواطن المسائل ، وتجاوز الظاهر المكشوف الخفي المستتر.» (١)
ومعاني الحروف من أعمال اللغوي الباحث عن دلالات الألفاظ المفردة ، وإنما احتفى بها النحاة ، وأفردوا لها كتبا ؛ لأن الحروف روابط التركيب ، وعلى التركيب ينصب عمل النحوي. وفي بعض كتب النحو نرى أن النحاة يسوقون معاني الحروف ، ومنها حروف الجر أو الإضافة أو الصفات. (٢)
فالعلماء في تناوب الحروف على رأيين : فالبصريون لا يجيزون وقوع بعض الحروف موقع بعضها الآخر ، والكوفيون يجيزون ذلك. ويبدو أن تأدية الحرف معنى حرف آخر ، عند الكوفيين ، تأدية حقيقية لا مجازية ، وإلا فما معنى التنويع في معاني الحرف الواحد؟ وما معنى أن يكون للحرف الواحد عدة معان؟ (٣)
وكأن المؤلف رحمهالله قد تبنّى رأي الكوفيين في هذه المسألة ، فنجده كثيرا ما يخرج الحرف إلى معنى حرف آخر ، والأمثلة على ذلك كثيرة جدا في تفسيره ، وأحاول أن أوضح طريقته على الشكل الآتي :
١ ـ تناوب (أو) : تكون بمعنى (الواو) ، كما في قوله تعالى : (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) [البقرة : ٧٤] ، فجعلها هو بمعنى (الواو) ، ونقل قول غيره بأنها بمعنى (بل) ، وسوّغ قوله : إنها بمعنى (الواو) بقوله : «إلا أنه في مثل هذا الموضع لاستدراك الصواب بالأصوب» (٤).
وفي قوله تعالى : (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) [البقرة : ٢٠٠] ، جعل (أو) بمعنى (بل) ، ونقل قولا بأنها بمعنى (أو) (٥) ، أي : عكس سابقتها.
٢ ـ تناوب (ثم) : فقد جعلها بمعنى (الواو) ، وذلك في قوله تعالى : (ثُمَّ أَفِيضُوا) [البقرة : ١٩٩] ، وشبهها بالآية الأخرى من سورة يونس قول الله تعالى : (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ) [يونس : ٤٦]. (٦)
٣ ـ تناوب (على) : ومثال ذلك ما جاء في تفسيره قول الله تعالى : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا
__________________
(١) تناوب حروف الجر في لغة القرآن ٥.
(٢) ينظر : كشاف اصطلاحات الفنون ١ / ٣٢ ، وتناوب حروف الجر ٨.
(٣) النحو الوافي ٢ / ٤١٤.
(٤) الأصل (١٨ ظ).
(٥) ينظر : الأصل (٤٦ و).
(٦) ينظر : الأصل (٤٦ ظ).