ولفظ الآية مع ذلك عام وحكمها باق لجميع الناس ، وقوله مستخلفين فيه يعني أن الأموال التي بأيديكم إنما هي أموال الله ؛ لأنه خلقها ، ولكنه متّعكم بها وجعلكم خلفاء بالتصرف فيها ، فأنتم فيها بمنزلة الوكلاء ، فلا تمنعوها من الإنفاق فيما أمركم مالكها أن تنفقوها فيه ، ويحتمل أن يكون جعلكم مستخلفين عمن كان قبلكم فورثتم عنه الأموال ، فأنفقوها قبل أن تخلفوها لمن بعدكم ، كما خلفها لكم من كان قبلكم ، والمقصود على كل وجه : تحريض على الإنفاق وتزهيد في الدنيا (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) معناه أي شيء يمنعكم من الإيمان ، والرسول يدعوكم إليه بالبراهين القاطعة والمعجزات الظاهرة؟ فقوله : ما لكم استفهام يراد به الإنكار. ولا تؤمنون في موضع الحال من معنى الفعل الذي يقتضيه ما لكم. في قوله والرسول يدعوكم واو الحال (وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ) يحتمل أن يكون هذا الميثاق ما جعل في العقول من النظر الذي يؤدي إلى الإيمان ، أو يكون الميثاق الذي أخذه على بني آدم ؛ حين أخرجهم من ظهر آدم ، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا : بلى.
(هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ) يعني سيدنا محمدا صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، والعبودية هنا للتشريف والاختصاص ، والآيات هنا القرآن (وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) الآية : معناه أي شيء يمنعكم من الإنفاق في سبيل الله؟ والله يرث ما في السموات والأرض إذا فني أهلها. ففي ذلك تحريض على الإنفاق وتزهيد في الدنيا (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) الفتح هنا فتح مكة ، وقيل : صلح الحديبية ، والأول أظهر وأشهر ، ومعنى الآية التفاوت في الأجر والدرجات ؛ بين من أنفق في سبيل الله وقاتل قبل فتح مكة ، وبين من أنفق وقاتل بعد ذلك ، فإن الإسلام قبل الفتح كان ضعيفا ، والحاجة إلى الانفاق والقتال كانت أشد ، ويؤخذ من الآية أن من أنفق في شدة أعظم أجرا ممن أنفق في حال الرخاء ، وفي الآية حذف دل عليه الكلام تقديره : لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل مع من أنفق من بعد الفتح وقاتل. ثم حذف ذلك لدلالة قوله : أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وفي هذا المعنى قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : لا تسبوا أصحابي فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه (١) ، يعني السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وخاطب بذلك من جاء بعدهم من سائر الصحابة ، ويدخل في الخطاب كل من يأتي إلى يوم القيامة (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) أي
__________________
(١). رواه أحمد عن أبي سعيد الخدري ج ٣ ص ١١ ، ٦٣.