وكذلك تقديم النبيّ صلىاللهعليهوآله المتأخّرين بانتظارهم حتّى اجتمعوا ، وإرجاع المتقدّمين الذين أسرعوا بالسير ، وجمعهم في تلك البقعة ، وفي ذلك الوقت الحارّ ، وقت الظهيرة الشديد الحرّ ، وخصوصاً أنّهم قد قضوا مناسكهم وهم مسافرون ، وتنتظرهم مسافات شاسعة للوصول إلى ديارهم وأهليهم.
فما هو ذلك الأمر المهمّ ، الذي يستوجب كُلّ هذا من جمع كبير ، وحشد مؤمن راجع من شعيرة عظيمة تمحي الذنوب ، وترجع العبد إلى ربّه كالثوب الأبيض ، وتهيأه لتحمّل أمر صعب القبول على النفس الأمارة بالسوء؟
فأوضح رسول الله صلىاللهعليهوآله بعد ذلك بخطبته البليغة ما يريد أن يزفّ من بشرى وعيد للمؤمنين ، مع خوفه وإشفاقه على الآخرين ، الذين سيغيّرون ويحدثون في الدين من بعده صلىاللهعليهوآله ، كما صرّح بذلك في مناسبات أُخر.
٢ ـ القرائن المقالية : وهي ابتداء النبيّ صلىاللهعليهوآله بقوله : « يوشك أن يأتيني رسول ربّي عزّ وجلّ فأُجيب ».
فهذه قرينة واضحة لكُلّ عاقل ، بأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله يريد أن يوصي أُمّته وصية موته ، وأمر الأُمّة من بعده ، وقوله صلىاللهعليهوآله : « وإنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله فيه الهدى والنور ... وأهل بيتي » (١) ففيها دلالة على ترك البديل له صلىاللهعليهوآله ، والممثّل الشرعي من بعده.
وقوله صلىاللهعليهوآله : « أذكركم الله في أهل بيتي » تأكيد عميق منه صلىاللهعليهوآله ، بعد أن أكّد ذلك ثلاث مرّات بالتكرار ، للتأكيد على هذا الأمر العظيم الثقيل ، الذي يتوقّع عدم قبوله من أكثرهم.
وأمّا في الرواية الأُخرى ، ففي بدايتها يشهدهم النبيّ صلىاللهعليهوآله بقوله : « ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم »؟ قالوا : بلى ، فأكّد ثانياً ، وقال : « ألست أولى
____________
١ ـ صحيح مسلم ٧ / ١٢٣ ، سنن الدارمي ٢ / ٤٣٢ ، السنن الكبرى للبيهقي ٧ / ٣٠ و ١١٤ ، تحفة الأحوذي ١٠ / ١٩٧.