العرب قد تفعل ذلك للحاجة إليه فى أوزان أشعارها ، وسعة تصرّف أقوالها. وقد يجوز أن تكون لغته فى الأصل إحداهما ، ثم إنه استفاد الأخرى من قبيلة أخرى ، وطال بها عهده ، وكثر (استعماله لها) ، فلحقت ـ لطول المدّة واتصال استعمالها ـ بلغته الأولى.
وإن كانت إحدى اللفظتين أكثر فى كلامه من صاحبتها فأخلق الحالين به فى ذلك أن تكون القليلة فى الاستعمال هى المفادة ، والكثيرة هى الأولى الأصليّة.
نعم ، وقد يمكن فى هذا أيضا أن تكون القلى منهما إنما قلّت فى استعماله لضعفها فى نفسه ، وشذوذها عن قياسه ، وإن كانتا جميعا لغتين له ولقبيلته. وذلك أن من مذهبهم أن يستعملوا من اللغة ما غيره أقوى فى القياس منه ؛ ألا ترى إلى حكاية أبى العباس عن عمارة قراءته (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) [يس : ٤٠] بنصب النهار ، وأن أبا العباس قال له : ما أردت؟ فقال : أردت «سابق النهار» قال أبو العباس فقلت له. فهلا قلته؟ فقال : لو قلته لكان أوزن ؛ أى أقوى. فهذا يدلك على أنهم قد يتكلّمون بما غيره عندهم أقوى منه ، (وذلك) لاستخفافهم الأضعف ؛ إذ لو لا ذلك لكان الأقوى أحقّ وأحرى ؛ كما أنهم لا يستعملون المجاز إلا لضرب من المبالغة ؛ إذ لو لا ذلك لكانت الحقيقة أولى من المسامحة.
[وإذا كثر على المعنى الواحد ألفاظ مختلفة فسمعت فى لغة إنسان واحد فإن أخرى ذلك أن يكون قد أفاد أكثرها أو طرفا منها ؛ من حيث كانت القبيلة الواحدة لا تتواطأ فى المعنى الواحد على ذلك كلّه. هذا غالب الأمر ، وإن كان الآخر فى وجه من القياس جائزا.
وذلك كما جاء عنهم فى أسماء الأسد والسيف والخمر وغير ذلك ، وكما تنحرف الصيغة واللفظ واحد] نحو قولهم : هى رغوة اللبن ، ورغوته ، ورغوته ، ورغاوته ، ورغاوته ، ورغايته. وكقولهم : الذروح ، والذرّوح ، والذّرّيح ، والذرّاح ، والذرّح ، والذرنوح ، والذرحرح ، والذرّحرح (١) ؛ روينا ذلك كله. وكقولهم : جئته من عل ، ومن عل ، ومن علا ، ومن علو ، ومن علو ، ومن علو ، ومن علو ، ومن عال ، ومن معال. فإذا أرادوا النكرة قالوا : من عل. وهاهنا من هذا ونحوه
__________________
(١) كل ذلك : دويبّة أعظم من الذباب شيئا مجزع مبرقش بحمرة وسواد وصفرة. اللسان (ذرح).