لست ابن عقيل ، أنا غلامه ، فقالوا : بل أنت ابنه ، وجبذونى ، فأخرجونى من الدكان. فقلت : إلى أين؟! فقالوا : إلى ديوان الأستاذ أبى علىّ «الحسين بن أحمد» يعنون أبا زنبور (١) ، فقلت : وما يصنع بى؟! فقالوا : إذا جئت ، سمعت كلامه ، وما يريده منك. وكنت بعقب علة ضعيف البدن ، فقلت : ما أقدر أمشى ، فقالوا : اكتر (٢) حمارا تركبه. ولم يكن معى ما أكترى به حمارا ، فنزعت تكّة سراويلى (٣) من وسطى ، ودفعتها على درهمين لمن أكرانى الحمار.
ومضيت معهم ، فجاءوا بى إلى دار «أبى زنبور». فلما دخلت ، قال لى : أنت ابن عقيل؟ فقلت : لا يا سيدى ، أنا غلام فى حانوته. قال : أفليس تبصر قيمة الخشب؟
قلت : بلى ، قال : فاذهب مع هؤلاء ، فقوّم لنا هذا الخشب ، فانظر بحيث لا يزيد ولا ينقص. فمضيت معهم ، فجاءوا بى إلى شطّ البحر ، إلى خشب كثير من أثل (٤) ، وسنط (٥) جاف ، وغير ذلك مما يصلح لبناء المراكب. فقوّمته تقويم جزع ، حتى بلغت قيمته ألفى دينار ، فقالوا لى : انظر هذا الموضع الآخر ، فيه من الخشب أيضا ، فنظرت فإذا هو أكثر مما قوّمت بنحو مرتين ، فأعجلونى ، ولم أضبط قيمة الخشب ، فردّونى إلى «أبى زنبور» ، فقال لى : قوّمت الخشب كما أمرتك؟ ففزعت ، فقلت : نعم. فقال :
__________________
(١) الحسين بن أحمد المادرائىّ ، أبو زنبور الكاتب البغدادى الأصل. ولد سنة ٢٣٢ ه. وصرّف أمور الخراج لخمارويه فى مصر ، ونظر فى شئون مصر المالية ل (هارون بن خمارويه) ، وكذلك ولى الخراج للوالى (عيسى النّوشرىّ). وظل يتقلد مسئولية إدارة شئون مصر المالية فترة طويلة. وتوفى سنة ٣١٧ ه. (المقفى ٣ / ٤٦٦ ـ ٤٨٢).
(٢) أى : استأجر. والكراء : أجر المستأجر (اللسان : مادة : ك. ر. ى) ج ٥ / ٣٨٦٦ ، والمعجم الوسيط ٢ / ٨١٦ ـ ٨١٧.
(٣) تكّة : رباط ، والجمع : تكك. (وهى لفظة مولّدة ، أى : استخدمت ـ قديما ـ بعد عصر الرواية ، على نحو ما شرح ناشرو المعجم الوسيط فى رموزه بالمقدمة ١ / ١٦). (راجع : اللسان ، مادة : ت. ك. ك) ١ / ٤٣٨ ، والمعجم الوسيط ١ / ٨٩. وسراويل : جمع سروال (لفظة مولدة تعنى : لباسا يغطى السّرّة والركبتين وما بينهما). وهى تذكّر ، وتؤنث. وجمع سراويل : سراويلات. (اللسان : مادة : س. ر. ل) ج ٣ / ١٩٩٩ ، والمعجم الوسيط ١ / ٤٤٤.
(٤) شجر من الفصيلة الطّرفاويّة ، يشبه شجر (الطّرفاء) ، إلا أنه أعظم وأجود عودا ، معمّر جيد الخشب. واحدتها : أثلة. (اللسان ، مادة : أ. ث. ل) ج ١ / ٢٨ ، والمعجم الوسيط ١ / ٦.
(٥) شجر يزرع فى الأقاليم الحارّة ، ويكثر بمصر ، ويؤخذ منه الحطب (وهو أجوده : أكثره نار ، وأقله رماد). واحدتها : سنطة (اللسان ، مادة : س. ن. ط) ٣ / ٢١٧ ، والمعجم الوسيط ١ / ٤٧٢.