والناظر بأدنى تأمل في القرآن الكريم وما أتى به هؤلاء الحنفاء يرى البون الشاسع بينهما يرى بساطة ما دعوا إليه ويرى مقابله قرآنا معجزا في لغته وأسلوبه قد عجز العرب جميعا عن مضاهاته مع فصاحتهم وطلاقة ألسنتهم.
ويرى قرآنا معجزا في تشريعاته صغرت أمامه كل التشريعات البشرية ، ويرى قرآنا معجزا في وضوح عقيدته وتكاملها وصدق نبوءته فيما أخبر عنه من غيبيات ، وحقائق علمية ثابتة تحققت في حياته ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وبعد مماته ، كما أنه من المعروف أن هذا القرآن بقي يتنزل بعد موت هؤلاء الحنفاء حسب ما تقتضيه الحاجة والمصلحة فمن أين يا ترى هذه الاستمرارية له؟.
ثم إن هؤلاء الحنفاء كانوا هم أنفسهم يخبرون الناس بقرب بعثة الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وكانوا يطلبون من الناس أن يتبعوه ولا يخالفوه ويتمنوا لو يدركوه فيسلموا معه وينصروه ، فلو كانوا هم الأصل لدعوته ولتعليمه لقاموا بالدعوة لذلك بأنفسهم وتصدروا أمر الرسالة ، ونسبوا لأنفسهم هذا الشرف العظيم بل قد تشرفت نفوس بعضهم واشرأبت أعناقهم لهذا الفضل «كأمية بن أبي الصلت» الذي لبس المسوح وترهب طمعا به ولكن الله سبحانه يؤتي فضله من يشاء من خلقه والله ذو الفضل العظيم.
وهذا يدل على فقدهم لهذا الشيء ، وفاقد الشيء لا يعطيه.
أما كون الإسلام التقى مع دعوة الحنفاء في بعض ما صرحوا به واعتقدوه فلا غرابة في ذلك لأن ما عندهم بقايا لدين إبراهيم عليهالسلام والإسلام كلاهما من مصدر واحد وهو الوحي الإلهي. فمن هذا القبيل جاء الاتفاق بينهما بالدعوة إلى وحدانية الله سبحانه وتعالى ، ومحاربة الشرك بأنواعه ، وخلع عبادة الأصنام ، والأوثان بأشكالها والدعوة للأخلاق الفاضلة ، ومحاربة الفساد والرذيلة.
لكن كل ذلك كان في الإسلام أتم وأكمل وأشمل.
والإسلام ما جاء ليهدم كل ما وجده في طريقه ، لا بل ما كان منه موافقا للإسلام أبقاه ودعمه وأحياه ووضح هذا المعنى قوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ (بعثت لأتمم