من كل رجس معنوي ، لتكوني رمز الطهر الأبيض بياض الثلج ، النقي نقاء النور ، (وَاصْطَفاكِ) من بين خلقه (عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ). فقد أعدّك إعدادا روحيا أخلاقيا لتكوني القدوة للجميع ، فلم تحصل امرأة من كل جيلك من النساء على ما حصلت عليه من الملكة الروحية والكرامة الإلهية ، وأنبتك نباتا حسنا في حركة النمو الطبيعي الواعد بأفضل النتائج وأطيب الثمار. ف (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ) واستمري في خط الطاعة ، فلا بد من أن تبقي معه في صوفية الروح ، وعبادة الذات ، وخشوع الإحساس ، وحركية الكيان ... فإنك كلما عبدت الله وأطعته أكثر كلما فاضت ألطافه عليك أكثر ، وأحبّك أكثر ، (وَاسْجُدِي) في حالة انسحاق الذات أمامه كتعبير عن ذوبان الوجود في وجوده ، (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) بما يمثله الركوع من انحناء الإرادة أمام إرادة الله من خلال انحناء الجسد أمامه ؛ فإن قصة العبودية في حضرة الألوهية هي قصة الذوبان الروحي والجسدي في معنى الانسحاق الكلي في السجود لله والانحناء الكلي في الركوع له ، ليعيش الإنسان مع كل الراكعين في انحناء وجودي شامل يقف فيه الإنسان بكل وجوده خاضعا لله في عملية تكامل في معنى العبودية بين يدي الرب (١).
(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) لتعيش التاريخ الرسالي في حركته الروحية وفي نماذجه المميزة ، كما لو كنت في زمانه ، فتنطلق التجربة الحية في رسالتك لتكون منطلقا للسموّ والصفاء ، وانفتاحا على العبرة الواعية التي تمنح الحاضر درسا متحركا في تجربته من خلال الماضي في عملية تواصل بين الزمانين كمظهر للتواصل بين الرسالات (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ) التي يكتبون بها ، أو أقواسهم التي كانوا يقترعون بها بما جعلوه عليها من
__________________
(١) اختلف المفسرون في تفضيل مريم على نساء العالمين ، هل المقصود نساء عالمها ـ وعليه أكثر المفسرين ـ أو نساء العالمين أجمع ـ وعليه الزجاج وغيره ، والظاهر أن القول الأول أصح لورود كثير من الروايات الصحيحة ، بأن فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين ، كما أن طبيعة الاختيار توحي بذلك باعتبار أنه يحصل في دائرة النساء الموجودة في ذلك الزمن ؛ والله العالم.