بذور رسالية
واستجاب الله لهم ذلك الدعاء كما يوحي الجوّ الذي تتحرك فيه الآيات ، وخاض الحواريون بقيادة عيسى عليهالسلام المعركة مع الكافرين وعاشوا الاضطهاد. وبدأ الكافرون يدبّرون المكائد والحيل في عمليّة مكر خفيّ حاقد ليطفئوا نور الله بمكرهم ، ولكن الله شاء غير ما يشاءون ودبّر غير ما يدبرون ، فقد أراد الله لرسالته أن تنطلق من مواقع اضطهاد الكافرين لرسله ، لأن الاضطهاد يعطي للرسالة قوتها وثباتها وعمقها وامتدادها في مشاعر الناس وأفكارهم ... فهم قد يستسلمون لسلطة الكافرين ، وقد يعاونونهم في اضطهاد الرسل وأتباعهم من المؤمنين ، وقد يخضعون لما يقدّم لهم من إغراءات السلطة فيعلنون الحرب على الرسالة ... ولكنهم ـ في الوقت نفسه ـ يختزنون في منطقة إلا شعور عمق الاحترام لهؤلاء الدعاة الذين يتمرّدون على العذاب ، ويسخرون من الاضطهاد ، وينتصرون على كل نوازع الضعف في نفوسهم ، ويحوّلون الحزن والألم في داخلهم إلى فرح كبير ...
ثم تبدأ البذور الرسالية تتناثر في أعماقهم من خلال كلمة يسمعونها هنا ، ولفتة يشاهدونها هناك ، وموقف يواجهونه ويقفون فيه مع رسالاتهم ... وتنمو البذور بعد ذلك لتتحوّل إلى عشب إيماني ، وخضرة روحية يانعة تهتز بها الروح ويزهو بها الشعور. وتكون المفاجأة ، فهؤلاء الجلادون يتحوّلون إلى مؤمنين خاشعين يطلبون من الله التوبة ومن الرسول وأتباعه العفو. وهؤلاء المتفرّجون الذين يصفقون للسلطة عند ما تضطهد الرساليين يتحوّلون إلى عاملين في ساحة الإيمان ... ويتحوّل التصفيق في أكفّهم إلى الجانب الآخر ، فيصفقون لمواقف الجهاد في نهاية المطاف ... وهكذا كان تدبير الله لحركة الرسالات في تخطيط بعيد المدى. وإذا دبّر الله أمرا فإنه خير من يدبّر ، لأنه هو الذي يملك زمام لحياة والإنسان في كل مصادره وموارده ... (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) وقد أشرنا في المفردات إلى أن المكر لا ينحصر في التحرك الخفي