وقوله : «إنّك لا تحكم إلّا بالصواب» إنّما يحصل معه التمييز بعد الفعل ، والمتقدم لا يجوز أن يكون هو المتأخّر.
وفيه نظر ، لأنّ وجوب تقدّم العلم أو الظن بالحسن على الفعل إنّما ثبت على تقدير جواز وقوع القبيح ، أمّا على تقدير عدمه فلا ، والجواز هنا منتف.
ثالثها : لو جاز أن يقول : «احكم فإنّك لا تحكم إلّا بالصواب» لجاز أن يكلّفه تصديق النبي وتكذيب المتنبّي عن غير دليل ، بل تفويضه إلى اختياره ؛ ولجاز أن يكلّفه الإخبار بمهما شاء فإنّه لا يخبر إلّا عن حق ، ولجاز أن يصيب في مسائل الأصول من غير اجتهاد ، ولجاز أن يفوض إليه تبليغ أحكام الله تعالى من غير وحي نزل عليه وهو باطل إجماعا.
ورابعها : لو جاز ذلك في حقّ العالم لجاز في حقّ العامّي.
[الوجه الثاني] وهو يدلّ على عدم الوقوع. [وفيه أمران :]
١. لو كان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم مأمورا باتّباع إرادته من غير دليل ، لما نهي عن اتّباع هواه ، إذ معناه الحكم بكلّ ما يميل قلبه إليه من غير دليل ، لكنّه قد نهي بقوله تعالى : (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى)(١) ، (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى)(٢).
لا يقال : إذا قيل له : «احكم فإنّك لا تحكم إلّا بالحق» كان نصا على حقّيّة كلّ ما يميل قلبه إليه ، فلا يكون اتّباعا للهوى.
__________________
(١) ص : ٢٦.
(٢) النجم : ٣.