من أنّ الله تعالى يخلق الفناء ، فيفني به الأجسام لكونه ضدّا ومنافيا لها ، سواء قيل بأنّه يخلق لكلّ جوهر فناء على حدة كما ذهب إليه أبو علي منهم ، أو أنّ فناء واحدا يكفي لإفناء الكلّ كما ذهب إليه أبو هاشم منهم ، وسواء كانوا اعتبروا الفناء ضدّا اصطلاحيّا للجواهر ، كما هو ظاهر المنقول عنهم ، أو أمرا منافيا للجواهر مطلقا بحيث يشمل عدم الملكة أو السلب أيضا ، فتبصّر.
فإن قلت : إنّا لا ندّعي بقولنا : «إنّه يمكن أن يكون العلم بالأصلح ، اقتضى انعدام شيء بعد وجوده ، كالصادر الأوّل أو القديم» أنّه يمكن أن يوجد عدم ذلك وفناؤه بعده كما هو مبنى ما ذكرت ، وأقمت الدليل على عدم إمكانه ، بل ندّعي أنّه يمكن أن يقتضي العناية الأزليّة والعلم بالأصلح قطع الفيض والوجود عن ذلك الشيء.
والحاصل أنّ الممكن لمّا كان في وجوده وبقائه محتاجا إلى المؤثّر كما هو المحقّق في موضعه ، سواء كان البقاء عبارة عن أمر آخر سوى أصل الوجود الأوّل ، أي عن استمراره ، أو عبارة عن الوجود الأوّل بحيث يبقى زمانين أو أكثر ، وكان وجوده وبقاؤه جميعا مفاضين بإفاضة الجاعل له الموجد إيّاه ، فجاز أن يقتضي العلم بالأصلح إبقاءه في حين ، ثمّ يقتضي قطع الإفاضة والجعل عنه وينعدم ، وهذا وإن كان فيه انعدام ذلك الشيء ، لكن ليس بجعل عدمه وفنائه ، بل بعدم جعل وجوده وعدم إفاضة بقائه ، وفي هذا ليس شيء من المفاسد التي ذكرتها في الجواب عنه.
قلت : قد ذكرنا أنّ العلم بالأصلح لا يكون جزافيّا ، بل ينبغي أن يكون متعلّقا بما هو أصلح في الواقع وفي نفس الأمر ، وأن يكون قطع الإفاضة أصلح في نفس الأمر حين فرض القطع ، كما كانت إفاضة الوجود والبقاء أصلح في الواقع حين فرضهما. فهذا القطع وهذا الذي فرض كونه أصلح في ثاني الحال كلاهما حادثان لم يكونا قبل. ومن المقرّر أنّ الحادث إنّما يكون بسبب حادث بسببه حدث قطع الإفاضة وحصول الأصلح الثاني ، وما هو الّا أحد أسباب زوال المعلول ، ومن المقرّر أنّ زوال المعلول إمّا بزوال علّته التامّة أو بزوال جزئها أو شرطها. وبعبارة اخرى إمّا بزوال علّته الفاعليّة ، أو بزوال صورته ، أو مادّته إن كان له صورة ومادة ، أو بزوال شرط وجوده إن كان له شرط ، أو بزوال غايته إن كانت له غاية وكان صادرا عن الفاعل المختار ، كما يقولون إنّ ذات البارئ تعالى وإن كان