الأوّل من جهة الغاية ، وبيانه أنّ الغاية المقصودة من النشأة الاخرويّة بما فيها ، كما دلّ عليه العقل والنقل أي ثواب أهل النعيم وعقاب أهل الجحيم ، سوى ما دلّ دليل خارج على انقطاعه ، كعقاب صاحب الكبيرة من المؤمنين أبديّة دائمة بحكم العقل ، لأنّ دوام الثواب على الطاعة ، وكذا دوام العقاب على المعصية ، يبعث المكلّف على فعل الطاعة ويزجره عن المعصية ، فيكون لطفا واللطف واجب على الله تعالى كما تقرّر في موضعه ، ولأنّ المدح والذمّ دائمان ، إذ لا وقت إلّا ويحسن فيه مدح المطيع وذمّ العاصي ، وهما معلولا الطاعة والمعصية ، فيجب دوام الثواب والعقاب ، لأنّ دوام أحد المعلولين يستلزم دوام المعلول الآخر ، إلى غير ذلك من الوجوه التي ذكرها العلماء في كتبهم. وحيث كانت الغاية المقصودة من النشأة الأخرويّة بما فيها المترتّبة عليها دائمة أبديّة يحكم العقل بوجوب أبديّة ذات الغاية أيضا إمّا بشخصها أو نوعها ، إذ لا انفكاك بين الغاية وذات الغاية ، مع أنّ الفاعل تامّ الفاعليّة ، فيّاض على الإطلاق ولم يعلم أيضا أنّ هناك شرطا لوجودها ، يطرأ عليه الفناء حتّى يكون بانعدامه ينعدم المشروط ، بل المعلوم هنا خلافه. والله تعالى أعلم.
الوجه الثاني : من جهة ذوات الموجودات الاخرويّة وصورها وموادّها. وبيانه أنّه لا يخفى أنّ النشأة الاخرويّة بما فيها مخالفة بالحقيقة للنشأة الدنيويّة بما فيها ، مخالفة تامّة بسببها صارت عالما آخر غيرها ، وأنّ النشأة الدنيويّة بما فيها ما سوى ما دلّ الدليل على بقائه ، كالصادر الأوّل أو القديم لو جوّزنا وجوده فانية كلّها ، هالكة جميعها ، يطرأ عليها الفناء والزوال ولو من وجه كما سيأتي بيانه ، فينبغي أن يكون النشأة الاخرويّة التي هي مخالفة لها بالحقيقة والذات ، غير قابلة للفناء والهلاك باقية أبدا فيتحدّس من ذلك كما شهدت به الأخبار المرويّة أيضا ، أنّ الموجودات الاخرويّة بسائطها ومركّباتها بصورها وموادّها ـ إن كانت لها ـ ليست من جنس الموجودات الدنيويّة التي يتطرّق إليها الكون والفساد ، والاستحالة والانقلاب والتغيّرات ، ويطرأ عليه الزوال والفناء أي أنّ موادّها أصفى وألطف جوهرا من موادّ هذه النشأة ، وأبعد من الكثافة التي هي منشأ التغيّر وقبول الصور المتواردة المتخالفة ، كما في موادّ الأجسام العنصريّة ، بل هي صافية جدّا بحيث لا يشوبها كدرة ولا كثافة مطلقا ، بل لا نسبة لها إلى موادّ هذه النشأة ، وكذلك صورها أتمّ وجودا وأوفر قسطا من الفيض الأعلى وأحفظ من صور هذه النشأة بل لا نسبة لها إليها ،