يظهر على من تصفّح كلامهم في ذلك ، إلّا أنّهم زادوا على ذلك ، وقالوا : إنّ المحسوسات بالحواسّ من الأجسام والأعراض ثابتة في هذا العالم ، قائمة بذاتها.
وإنّ كلّ ما في عالمنا هذا من الأفلاك والكواكب والعناصر والمركّبات والأرض والبرّ والبحر والإنسان والحيوان والجماد والمعادن والنبات والحركات وسائر الأعراض إلى غير ذلك من الموجودات ، موجود في العالم المثاليّ إلّا أنّها إليه ألطف وأحسن وأشرف وأفضل ممّا في عالمنا ، لقربها من المبدأ الأوّل.
وإنّ العالم المثاليّ عالم عظيم الفسحة لا ضيق فيه ، لأنّ الضيق إنّما يكون في الأمكنة والأبعاد الهيولانيّة. والصور هناك قائمة بنفسها لا تحتاج إلى مادّة ، فلا تحتاج إلى مكان ، لأنّ المكان إنّما يحتاج إليه ذو المادّة فلا يزاحم على مادّة ولا مكان ولا محل ، بل إنّ ما في العالم العقليّ من المجرّدات والمفارقات والعقول ، لها أشباح ومظاهر مثالية أيضا موجودة في العالم المثاليّ ، يظهر تلك المجرّدات في عالمنا هذا بحسب ما يقتضيه المصلحة والحال في ضمن تلك المظاهر والأشباح اللطيفة في الغاية القابلة للتشكّل بأشكال مختلفة على أشكال وصور مختلفة ، فقد تشاهد أحيانا وتغيب وتحضر بصورة أخرى كالبرق الخاطف ، فيتوهّم الرائي أنّها انقلبت وليس كذلك.
وإنّ العالم المثاليّ له طبقات كثيرة لا يحصيها إلّا الباري تعالى ، وكلّ طبقة منه فيها أشخاص غير متناهية ، وهذه الطبقات منها نورانيّة ملذّة ، هي طبقات الجنان بعضها أشرف وأفضل وأنور ، وبعضها دون ذلك ، ومنها طبقات مظلمة موحشة مؤلمة هي طبقات الجحيم متفاوتة أيضا في شدّة الظلمة والوحشة ، فالطبقة الفاضلة متاخمة لعالم العقل ، فهي في أفقه ، والطبقة السافلة متاخمة لعالم الحسّيّ ، فهي في أفقه ، وباقي الطبقات التي لا تحصى كثرتها محصورة بين هاتين الطبقتين ، وكلّ طبقة منها يسكنها قوم من الملائكة والجنّ والشياطين لا يتناهى عددهم.
وإنّ هذا العالم المثاليّ لا تتناهى عجائبه ، ولا يمكن إدراك غرائبه في العالم الدنيويّ الظلمانيّ ، بل لا يحيط بحقائقه إلّا الله تعالى ومقرّبو حضرته.
وإنّ هذا العالم عالم مقداريّ ، غير العالم الحسّيّ وغير العالم العقليّ والنفسيّ ، فيه