من هذه الجهة ، اقتضت الحكمة المتعالية الإلهيّة تعلّقها حينئذ ببدن مثاليّ يماثل البدن الأوّل في جميع الصفات والحالات والقوى والمشاعر إلّا ما شذّ منها ، ويكون ذلك البدن المثاليّ ينوب مناب البدن الأوّل العنصريّ في كونه آلة وواسطة في صدور تلك الأفعال الجزئيّة والإدراكات الحسّيّة عنها ، ولا يكون في تعلّقها به لزوم محال كالتناسخ ونحوه ، على ما عرفت بيانه سابقا ، سواء قلنا بحدوث البدن المثاليّ بعد خراب البدن العنصريّ الأوّل كما هو الاحتمال فيحدث تعلّقها به حينئذ ، أو قلنا بكونه موجودا معه في النشأة الدنيويّة أيضا ، وهو الأظهر كما دلّ عليه بعض الشواهد المتقدّمة ، فيظهر تعلّقها به ويغلب ويكثر. وبالجملة أن تصير متعلّقة به ، ويكون لها في ضمنه تلك الأفعال والآثار والإدراكات ، كما في ضمن البدن العنصريّ ، فإنّك قد عرفت فيما تلوناه عليك سابقا أنّ للبدن المثاليّ جميع الحواس والمشاعر والقوى الحيوانيّة ، وأنّ للنفس في ضمنه جميع تلك القوى مضافا إلى القوّة العقليّة التي هي لها بذاتها.
نعم ، القوة النباتية وإن لم تكن لها في ضمنه ، إلّا أنّ ذلك لعدم قبول المادّة المثاليّة لتلك القوّة ، حيث إنّ التّنمية والتّغذية والتّوليد التي هي من لوازم القوّة النباتيّة ، إنّما هي من خواصّ المادّة الجسمانيّة العنصريّة لا غير ، فكان النقص من جهة القابل لا الفاعل.
وبالجملة ، لا يلزم من تعلّقها ببدن مثاليّ مع التّعلّق بتلك الأجزاء الأصليّة زوال تشخّص النّفس ولا بطلان قواها ومراتبها ، فلا إشكال.
فإن قلت : كيف يكون الشيء الواحد في زمان واحد متعلّقا بأمرين مختلفين؟
قلت : لا محذور في ذلك فيما نحن فيه ، فإنّك قد ظهر لك فيما مرّ أنّ تعلّق النفس الإنسانيّة التي هي ذات مجرّدة عن المادّة في ذاتها بأمر من الأمور وبمادّة من المواد ، ليس على سبيل الانطباع في المادّة ، حتّى لا يمكن تعلّقها بأكثر من مادّة ، بل على سبيل التصرّف والتدبير ، وتعلّقها كذلك يجوز بأكثر من واحد ، ومع ذلك فالبدن المثاليّ ظلّ وشبح للبدن العنصريّ موجود بالعرض لوجوده ، بل لوجود أجزائه الأصليّة ، فهو ليس بمنفصل الذات ومباين القوام عن البدن العنصريّ ، حتّى لا يجوز تعلّقها به مع التعلّق بالبدن العنصريّ أو بأجزائه الأصليّة. ويرد عليه ما يرد على تقدير تعلّقها ببدنين مختلفين ،