ومنها ـ أنّه إذا صار مثلا إنسان معيّن غذاء بتمامه لإنسان آخر ، والمحشور لا يكون إلّا واحد منهما. ثمّ إن كان الآكل كافرا والمأكول مؤمنا ، يلزم إمّا تعذيب المطيع وتنعيم العاصي وهو ظلم ، أو كون الآكل معذّبا والمأكول منعّما مع كونهما جسما واحدا ، وهذا ممتنع.
وهذا الشبهة أيضا قد مرّت الإشارة إليها في الباب الخامس مع الجواب عنها ، إذ قد عرفت أنّ المعاد من البدن هو الأجزاء الأصليّة منه دون الأجزاء الفضليّة ، ولا امتناع في أن تعود الأجزاء الأصليّة من بدن المأكول التي لا نسلّم جواز كونها غذاء لبدن الآكل منفردة ، كالأجزاء الأصليّة من بدن الآكل ، فيعذّب الكافر وينعّم المؤمن كما هو مقتضى الحكمة المتعالية المقدّسة.
ومنها أنّ جرم الأرض مقدار ممسوح بالفراسخ والأميال ، وعدد النفوس غير متناه ، فلا معنى لحصول الأبدان الغير المتناهية جميعا فيها.
والجواب عن هذه الشّبهة أنّها مجرّد استبعاد ، ورفعه بأنّ مادّة الأرض وهيولاها يمكن لها قبول مقادير مختلفة ، كما يمكن لها قبول مقادير وانقسامات غير متناهية ، ولو متعاقبة ، وكما أنّ زمان الآخرة ليس من جنس أزمنة الدنيا ، كما قال تعالى : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (١) ، وقال : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (٢) كذلك مكان الآخرة ليس من جنس أمكنة الدنيا ، وليست هذه الأرض محشورة على هذه الصفة ، وإنّما المحشورة منها صورة تسع الكلّ من الخلائق من الأوّلين والآخرين. فاتل قوله تعالى :
(يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (٣) ،
وقوله : (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ* وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ) (٤) ،
__________________
(١) الحجّ (٢٢) : ٤٧.
(٢) المعارج (٧٠) : ٤.
(٣) إبراهيم (١٤) : ٤٨.
(٤) الانشقاق (٨٤) : ٣.