وكذلك قد يتوهم أنّ الخلود في النار لا سبب له ، ودوام العقاب والعذاب واستزادتهما إلى ما لا نهاية له لا حكمة فيه ولا مصلحة ، فإنّ العذاب والعقاب لا يكون إلّا قسريّا ، والقسر لا يدوم على طبيعة ، فإنّ لكلّ موجود غاية لا بدّ أن يصل إليها وقتا ما ، مع أنّ الرحمة الإلهيّة وسعت كلّ شيء ، كما قال جلّ وعلا : (عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) (١) ومع أنّ الباري جلّ ثناؤه كما أنّه لا ينفعه الطاعة ولا يضرّه المعصية ، كذلك لا يضرّه الثّواب ولا ينفعه العقاب ، ومع أنّ العقاب الدائميّ لا منفعة فيه لأحد ولا خير ، بل هو شرّ محض ، وهو لا يمكن أن يصدر عن الخير المحض والجواد المطلق والفيّاض على الإطلاق. وهذا التوهّم عند كثير ممّن يدّعون الكشف قد صار قويّا بحيث كان منشئا لعدولهم عن ظاهر الشّرع المبين ، النّاطق بخلود أهل النّار في النّار ودوام عذابهم وعقابهم. فقال بعضهم : إنّ الكفّار وإن كانوا خالدين في النّار ، إلّا أنّ عذابهم وعقابهم منقطع ، كما ينقل عن بعض المكاشفين (٢) منهم أنّه قال : «يدخل أهل الدارين فيهما : السعداء بفضل الله وأهل النار بعدل الله وينزلون فيهما بالأعمال ، ويخلّدون فيهما بالنّيّات ، فيأخذ الألم جزاء العقوبة موازيا لمدّة العمر في الشّرك في الدنيا ، فإذا فرغ الأمد جعل لهم نعيم في الدار التي يخلدون فيها ، بحيث إنّهم لو دخلوا الجنّة تألّموا لعدم موافقة الطّبع الذي جبلوا عليه ، فهم يلتذّون بما هم فيه من نار وزمهرير وما فيها من لذع الحيّات والعقارب كما يلتذّ أهل الجنّة بالظلال والنّور ولثم الحسان من الحور ، لأنّ طباعهم يقتضي ذلك. ألا ترى الجعل على طبيعته يتضرّر بريح الورد ويلتذّ بالمنتن ، والمحرور من الإنسان يتألّم بريح المسك ، فاللذّات تابعة للملائم والآلام لفوته.
وينقل عن بعضهم أنّه جعل ذلك العذاب مأخوذا من العذب ، أي العذاب من الطّعام والشّراب الذي معناه لغة كلّ مستساغ.
وقال بعضهم بخروج أهل النّار عن النّار وانقطاع عذابهم جميعا ، كما ينقل عن
__________________
(١) الأعراف (٧) : ١٥٦.
(٢) هو ابن العربيّ في الفتوحات ، وفصوص الحكم.